story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فرصة الرصاصة الوقحة

ص ص

ما حدث يوم أمس الأربعاء، 21 ماي 2025، في مخيم جنين ليس حادثا بروتوكوليا عابرا، ولا مجرد “سوء تفاهم” ميداني كما قد يسارع البعض لتصنيفه ضمن خانة الأخطاء العارضة.

فحين يُطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي الرصاص، ولو على سبيل “التحذير”، على موكب يضم سفراء أجانب، من بينهم السفير المغربي لدى دولة فلسطين، عبد الرحيم مزيان، فإن الأمر يتجاوز كل حدود اللياقة الدبلوماسية، ويتعلق بفعل سياسي محض يحمل رسالة صريحة: إسرائيل لا تعترف بأية خطوط حمراء، حتى حين يتعلق الأمر بممثلي دول تقيم معها علاقات رسمية، وتسميها زورا بـ”الحليفة”.

السفير المغربي، الذي كان ضمن وفد دبلوماسي يضم ممثلين عن الاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية، لم يكن في مهمة سرية أو سياسية مثيرة للريبة. بل كانت الزيارة مبرمجة ومعلنة، هدفها الوقوف ميدانيا على الوضع الإنساني في مخيم جنين، الذي تحوّل إلى رمز للخراب والعقاب الجماعي منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة.

ومع ذلك، لم تتردّد قوات الاحتلال في إطلاق النار قرب الوفد، بزعم أنهم دخلوا “منطقة غير مصرح بها”، وهو تبرير ينهار أمام بساطة الهدف الإنساني للزيارة، وأمام حقيقة أن الدخول تم بتنسيق مع الجهات الفلسطينية المعنية.

ما حدث ليس فقط تعدّ على الحصانة الدبلوماسية، بل هو إهانة مباشرة للمغرب كدولة ذات سيادة، وامتحان قاس لخطاب الرباط الذي دأب على تقديم العلاقة مع إسرائيل بوصفها “متوازنة” و”محسوبة” و”ذات منفعة متبادلة”.

كيف نبرّر اليوم لمواطن مغربي يرى ممثل بلاده يتعرض للرصاص وهو يزور أرضا فلسطينية محتلة، أن هذه العلاقة ما زالت تخدم المصالح العليا للمملكة؟

كيف نقنع شعبا يعيش في غليان شعبي منذ شهور، أن شراكة من هذا النوع ما زالت تستحق الصمت والترويج؟

لا أحد يطلب من المغرب إعلان حرب أو قطع علاقات، نهائيا، لكن الحد الأدنى من الكرامة يقتضي خطوات ملموسة: استدعاء مسؤول مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب للتشاور، وتجميد التعاون الأمني والتقني، وتعليق أية مبادرة مشتركة، وإصدار بيان رسمي يدين الحادث ويطالب بضمانات بعدم تكراره.

والأهم، التوقف عن الترويج لعلاقة وُلدت مشوهة، وتُستعمل لتبييض نظام فصل عنصري لا يعترف حتى بممثلي الدول التي تمدّ له اليد.

هذه ليست لحظة معزولة، بل تتزامن مع تحوّل كبير في مواقف المجتمع الدولي: فرنسا، بريطانيا، كندا، إيرلندا، إيطاليا… كلها بدأت تلوّح بالعقوبات وتدين إسرائيل بلغة غير مسبوقة.

حتى دونالد ترامب، الحليف الأشد لتل أبيب، تجاوز نتنياهو في جولته الخليجية الأخيرة، وفضّل إبرام صفقات كبرى مع السعودية وقطر والإمارات، دون أن يجد لنتنياهو مكانا فيها.

لقد تغيّرت موازين قوى الإقليم، وصعدت الدبلوماسية النفعية على حساب الولاء الأيديولوجي.

هل يُعقل أن نبقى، نحن المغاربة، آخر من يراجع حساباته؟ هل يُعقل أن نواصل التطبيع بينما الآخرون يغلقون الأبواب؟

هل يُعقل أن تتعرض كرامة ممثلنا الدبلوماسي لدى فلسطين لتهديد ميداني مباشر، ولا نملك الجرأة حتى على التنديد؟

نحن لا نملك أسطولا ولا نطمح لغزو أحد، لكننا نملك شيئا أقوى إن أحسنّا استخدامه: نملك الحق. وحقّ المغرب في احترام سفرائه ليس قابلا للمساومة أو التبرير أو التأجيل. كما نملك ما يكفي من الأدلة لنقول إن إسرائيل لم تكن يوما شريكا يحترم من يتحالف معه، بل تستعمل كل من يُقيم معها علاقة كأداة لتجميل وجهها القبيح، ثم ترمي به حين تنتهي مهمته.

الواقع أن المغرب اليوم أمام فرصة لا تُعوّض لإعادة التموضع. ليس فقط انسجاما مع ضمير شعبه، ولكن حفاظا على هيبته الدولية، ومكانته الإقليمية، ومصداقيته الأخلاقية.

فأن تكون طرفا في نظام إقليمي جديد يتشكل من دون إسرائيل، خير لك من أن تُستعمل كقشرة تغطي جريمة، أو كورقة توت على جسد محتل فقد كل مقومات الاحترام.

ما وقع في جنين ليس خطأ عابرا، بل هو جرس إنذار. واختبار سيادي وأخلاقي. رصاصة صغيرة منحت المغرب مبررا كبيرا لتصحيح المسار.

حادثة جنين ليست استثناء في تاريخ العلاقات الدولية، بل هي حلقة أخرى في سلسلة من الأحداث الصغيرة شكلا، العميقة دلالة، التي شكّلت منعرجات كبرى في السياسة.

ففي سنة 1827، شكّلت صفعة “المروحة” التي وجّهها حاكم الجزائر حسين داي للقنصل الفرنسي ذريعة لفرنسا لشنّ احتلال شامل للجزائر دام أزيد من قرن، ما يؤكد أن الإهانة الرمزية قد تتحول إلى لحظة تقرير مصير.

وعلى المنوال المعاكس، حين أطلقت إسرائيل النار سنة 2010 على سفينة المساعدات التركية “مرمرة” وقتلت تسعة نشطاء، لم تتردد أنقرة في طرد السفير الإسرائيلي، وقطع العلاقات، وتدويل القضية، رغم عضويتها في حلف الناتو وتشابك مصالحها مع الغرب.

وفي عام 2016، اغتيل السفير الروسي في أنقرة في حادث كان كفيلا بإشعال حرب، لكن موسكو اختارت الردّ الذكي، وأحكمت توظيفه لتضغط على أنقرة سياسيا وتجعلها تدفع الثمن.

بل إن الصين نفسها لم تقطع علاقتها بواشنطن بعد قصف سفارتها في بلغراد سنة 1999، لكنها لم تترك الحادث يمر دون تحصيل مكاسب استراتيجية.

الدول الحقيقية لا تُهان ثم تبتسم أو تمدّ الخدّ الآخر للصفع، بل تُحسن توظيف الإهانة لبناء موقع، أو لاستعادة كرامة، أو على الأقل لتعديل ميزان مختلّ.

والمغرب، إن أراد اليوم أن يكون فاعلا في هذا الزمن المضطرب، لا يمكنه أن يمرّ على حادثة جنين مرور السهو، ولا أن يكتفي بتفسير إداري لجندي أطلق النار، بل عليه أن يقرأها كرسالة وقحة، وأن يرد عليها بسياسة راشدة ووطنية، دون صراخ ولا خنوع.

فهل نُكرّر خطأ السكوت كما فعلنا مع “رصاصات” نتانياهو السابقة ضد وحدتنا الترابية؟