“فراقشية” السياسة والصحافة
لم تعد تُذْكَر حكومة عزيز أخنوش إلا مقترنةً بتنازع المصالح. حكومةٌ مشتبهٌ بها على طول الخط. ولا دخان دون نار.
لربما هذه الحكومة، الـ33 في تاريخ المغرب منذ الاستقلال، هي أكثر حكومة التصقت بها هذه التهمة الثقيلة في ميزان القانون والسياسة والأخلاق، إذ حيثما تحرّكتَ في جنباتها تطلّ عليكَ صفقةٌ برأسها.
حكومة الانتفاع بلا حدود. والأفدحُ أن وزراءها يعيشون حالة إنكارٍ للواقع بشأن قضايا تنازع المصالح الفاقع لونها، لذا يحاجِجون بـ”السلامة القانونية” في وجه كل هذا الاشتباه المتكرّر الذي صار يصعبُ إحصاؤه.
وزير الصحة أمين التهراوي، الذي فرح مغاربةٌ حين “تكلّم دون أن يتلعثم”، تحدّى أن يأتيه أحد بدليل على خرق القانون في صفقات وزارته. تكْتَسِبُ دعواه بعضَ الوجاهة وهو يحشر معارضيه في زاوية الملاءمة القانونية، لكنّها تخفي الوجه الأبشع في تعيين موظفين في شركات رئيس الحكومة وزراءَ، يدبّرون الشأن العام بمنطق الشركة، وبقوانين السوق، لا بأخلاق رجال الدولة.
دوماً يكون إثبات تنازع المصالح معقّداً، مادام يتحرّك في مساحة القانون، وأيضا ضمن مجال الأخلاقيات.
وإذا تحقّقت السلامة القانونية في الصفقات، فلا يعني ذلك تلقائياً أنها سليمة أخلاقياً، وضمن هذه المساحة تناور الحكومة ورئيسها عزيز أخنوش، الذي حوّل البرلمان إلى منصّة للدفاع عن صفقة تحلية مياه البحر التي فازت بها إحدى شركاته، التي تعاقدت مع لجنة حكومية يمنح القانون سلطة رئاستها لأخنوش نفسه.
نتحدث فعلياً، خلال تناول موضوع تنازع المصالح، في غياب إطار قانوني شامل، عن “المُتشابِهات” بين “الحلال البيّن والحرام البيّن”، لهذا يجنحُ المسؤولون الحكوميون والمنتخبون المتحقّقون بالأخلاق السياسة والنزاهة دوما إلى الهروب من وضعية التضارب بالاحتماء بروح القانون في أكثر قراءاته تشدّدا، تأميناً للنزاهة خلال تقلّد الخِدمة العمومية.
والخدمة العمومية مسؤوليةٌ تطوّق صحابها، أساسها فيما يخصّ المنتخبين والوزراء مثلا التطوّع، ولهذا يتم الإلزام بالتصريح بالممتلكات عند تقلّد المسؤوليات والانسحاب من أجهزة القرار والتسيير في شركات أو مؤسسات لها مصلحة اقتصادية قد تُفضي إلى صفقات مع وزارات ومقاولات ومؤسسات عمومية. هو نوع من التعاقد الضمني على النزاهة غير المتروكة فقط لضمائر الناس.
والخدمة العمومية أيضا قد تحرم من “تقلّدوها” (من التَّقْليد بالدارجة المغربية) من “حقوق”، على قاعدة أن “حسنات العامة سيِّئات الأبرار”. فلا أحد ملزمٌ بأن يكون رئيس حكومة أو برلمانياً أو غيرها من المسؤوليات الانتدابية أو الحكومية، لكنّ أصحابها يصيرون ملزمين بتحرّي أقصى درجات الاحتياط عند ممارسة صلاحياتهم وسلطاتهم، خدمةً للمصلحة العامة.
وفي غياب الإطار القانوني الشمولي للتصدي لتنازع المصالح، يُفصِّل المادة 36 من الدستور، التي تقرّ بأنه “يُعاقب القانون على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، وكل مخالفة ذات طابع مالي”، فإننا سنبقى في وضعية شديدة الإرباك، خاصة في ظل حكومة رجال الأعمال غير المعنية بكل هذه الأخلاقية التي نتلمّس طريقها.
منذ تنصيب حكومة أخنوش لم يتوقّف تراجع المغرب في مؤشرات إدراك الفساد. في فبراير الأخير، كشفت منظمة الشفافية العالمية (ترانسبرانسي)، في تقريرها السنوي المتعلق بإدراك الفساد لسنة 2024، عن تراجع المغرب بواقع مركزين عن تصنيف سنة 2023، إذ انتقل من الرتبة 97 إلى الرتبة 99 عالميا من أصل 180 دولة شملها المؤشر.
هذا التراجع له تفسيرات ودواعٍ، ولم ينزل من السماء. “تفويت” رئيس الحكومة صفقة كبيرة يشرف على عقدها إلى إحدى شركاته يُثير أكواماً هائلة من الأسئلة بشأن النزاهة وحياد الإدارة. وعندما تخفّض الضرائب في قوانين المالية لتستفيد شركات بعينها فهذا يضرب في العمق التزامات الشفافية ومراعاة المصلحة العامة لا الخاصة. ووقوع سياسيين من الحزب الذي يقود الحكومة في شبهة “استغلال تسريبات مخلّة بالتنافس النزيه” فيما يتعلّق باستيراد اللحوم، ينسف كل أساس للثقة ويسمّم مناخ الأعمال. أما ما صار يُنشر يومياً من اتهامات لقطاع الصحة، فيكفي، إن ثبتت المزاعم، لإسقاط هذه الحكومة.
تتحدثُ تقارير عن استفادة شركة أدوية مملوكة لمحمد سعد برادة، القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار، قائد الائتلاف الحكومي، ووزير التربية الحالي، من صفقات تُثار حولها “شبهات” مع وزارة الصحة التي يرأسها زميله في قيادة الحزب وفي الحكومة أمين التهراوي.
أمّا الحديث عن تضخيم أسعار أدوية فمثير للغضب، ويظهر حجم الاستهداف لمواطني هذا البلد، واستغلالهم في أضعاف حالاتهم، لامتصاص مقدرّاتهم، و”شفط” صناديق تأمين ساهموا في تنميتها من خلال اشتراكاتهم، قبل أن يسطوَ عليها “تجّارٌ” في الصحة نهِمون لا يشبعون من “المال السايب” الذي يعلّم فنوناً من “السرقة بما يرضي القانون” مرّات.
هنا نرصد ملامحَ تأثيرٍ سحري ومثير لـ”الصفات السياسية والحكومية” والقتل غير الرحيم الذي يمارسه رأس المال للمنافسة.
هذه القضايا قد تشكّل عناصر إجرامية متعددة الأبعاد، تستهدف المال العام، وأيضا الصحة العمومية، مادامت كثيرٌ من المعطيات صارت معلومةً من داخل مؤسسة البرلمان، والوقائعُ التي يجري تداولها إعلاميا خطيرة، وتبرز شبهة تنازع المصالح في استغلال بشع لهشاشة الإطار القانوني.
كما تتوفّر في هذه القضايا عناصر تأسيسية للاشتباه في استغلال المنصب السياسي أو الحكومي لتحقيق منافع خاصة، تتعزّز بتضخّم غير طبيعي في أرقام معاملات شركات كبرى تنبتُ كالفطر واخرى ذات صلات سياسية معلومة، بما يؤسس لاحتمال استغلال معلومات داخلية والانتفاع منها. وأيضا، وفي مرات، استغلال قوانين استيراد الأدوية عبر الصفقات الاستثنائية، نتيجة لاحتمال عدم تحمل وزارة الصحة لمسؤوليتها في ضمان عدم انقطاع أدوية حيوية، بما أنشأ وضعيةً استفادت منها أطرافٌ بعينها “لا تخضع لأي مراقبة”.
هذه الضحالة وعدم تحرّي النزاهة التامة تنطبق على البرلمان ذاته. مشهد واحد يكشف كل هذا الانحدار. البرلمانيون حولوا اجتماع لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، يوم 28 أكتوبر الماضي، والتي كانت مخصصة لتقديم مشروع قانون المالية لسنة 2026، إلى منصة للاحتفاء بفوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، حيث وقفوا لتحيته على خلفية تتويج منتخب كرة القدم لأقل من 20 سنة بكأس العالم.
يستحق لقجع التحية على كل الإنجازات في كرة القدم، لكن في المكان الصحيح. مناقشة قانون المالية كان يُفترض أن تكون أكثر جدّية، مادامت ترهن مصير المغاربة للعام المقبل، ولربما لسنوات. للأسف، لم يحدث كل ذلك وقد افتقد نواب الأمة للتوازن المطلوب للتدقيق مع ممثل الحكومة، بموجب سلطاتهم الرقابية. بدل ذلك اختاروا حمل لقجع فوق “العمارية”.
تقارن “زفّة” لقجع في البرلمان يوم 28 أكتوبر مع أزمة الميزانية في دول مثل بلجيكا وبريطانيا وإيطاليا، وأخيرا الإغلاق الحكومي في أمريكا، على خلفية مناقشات قوانين الميزانية، فتدرك حجم الإسفاف الذي نوجد فيه.
قصارى القول
هذه الوضعية الخطيرة التي تضرب صميم الثقة في المؤسسات نتيجةٌ لحسبةٍ غلطٍ ممن راهن على منسوب تسييس أقل، متوهماً تحقيق النجاعة بالتقنوقراط المصبوغين، بما أغرق الحكومة بموظفي شركات رئيس الحكومة، قبل أن نشهد تهتّكا أخلاقيا فاضحا في تدبير شؤون المغاربة، قبل أن يكون سقوطاً سياسيا، أو تعديّاً على القانون.
لها علاقة بما سبق:
عند اكتمال تحرير هذا المقال، فجّر الصحافي حميد المهداوي فضيحةً وهو يكشف، بالصوت والصورة، كيف جرت “محاكمته” أمام لجنة الأخلاقيات التابعة للمجلس الوطني للصحافة المطعون في قانونيته. ما شهدته الجلسة كان مؤذياً بشكل لا يتصوّر، بكل ذلك الاستخفاف بالقانون، والعدوانية الواضحة على “القضاة”، وترتيبهم لاتصال بمسؤول قضائي لتفويت حقوق النقض على الصحافي، بحيث شغلهم كيف “يُغيِّزون” له عن تمتيعه بشروط “المحاكمة العادلة”.
فضيحة لجنة أخلاقيات المجلس الوطني للصحافة غير مفصولة عن مشهد “فراقشية الحكومة”. ويبدو أننا في “زمن الفراقشية” في كل مكان.