story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

غزة تنتصر: “الاتفاق” الذي سعت الحرب إلى إفشاله

ص ص

يحمل الحديث عن انتصار غزة في طياته مشاعر عميقة، تتجاوز الفلسطينيين لتصل إلى كل من يؤمن بالكرامة والحرية كحق إنساني أصيل. ورغم هذا، تطفو على السطح حملات إعلامية تسعى للتقليل من هذا الانتصار بل وتسخر من فكرة الانتصار أصلا، في محاولة واضحة لتحطيم روح الأمل التي تمنحها المقاومة للشعوب. حملات لا تقتصر على تقديم تحليلات باردة للمشهد، بل تتعدى ذلك إلى استهداف الروح المعنوية للشعوب المتضامنة مع غزة، خصوصا أولئك الذين يجدون في صمودها مصدر إلهام وأمل. فالمقاومة ليست مجرد مواجهة بالسلاح، بل هي تجسيد للصمود والتمسك بالهوية أمام محاولات الطمس والتهجير. فكل شهيد يرتقي، وكل قذيفة تُطلق، وكل طفل يُفقد، يعيد التأكيد على قدرة غزة على الوقوف بثبات، مهما كان حجم المعاناة والدمار. ومع ذلك، تستمر هذه الأطراف بوعي أو بدون وعي في بث رسائل تشكك في هذا النصر، متبنية خطابا يهدف إلى تصوير المقاومة كجهد فاشل في تحقيق التطلعات تليق بحجم التضحيات.

ومن تناقضات هذا الخطاب أنه يسعى لتحميل المقاومة مسؤولية المجازر التي ارتُكبت، وهو خطاب يتماهى بشكل واضح مع الرواية الإعلامية للاحتلال التي حاولت بدورها إلقاء اللوم على المقاومة في ما لحق بالمدنيين من أضرار. لكن اللافت أن سكان قطاع غزة لم يوجهوا أصابع الاتهام إلى المقاومة، بل أظهروا وعيا عميقا بحقيقة المشهد. والذي تجسد بشكل واضح أثناء إتمام عملية تبادل الأسرى في ساحة السرايا في قلب مدينة غزة –والتي بالمناسبة كان الاحتلال يهدف إلى إقامة ثكنة عسكرية مركزية فيها– حيث كانت هذه اللحظة بمثابة رسالة قوية عن التضامن والتمسك بالهوية، وأكدت أن المقاومة ليست مجرد طرف في صراع، بل هي جزء لا يتجزأ من الإرادة الشعبية وصمودها. ومن منزلقات هذا الخطاب تلاعبه بالكلمات والصور والرسائل لتوجيه التفكير نحو جوانب سلبية فقط، بهدف جعل المجتمع الفلسطيني، وأيضا كل من يسانده، في حالة دائمة من التقليل من الإنجازات، وكأن النضال والمقاومة لا يمكن أن يتحقق فيها أي تقدم سوى في حال تحقيق “النصر الكامل”.

لقد فشل الاحتلال، رغم دعايته المكثفة، في إقناع العالم بأن المقاومة هي المسؤولة عن معاناة الشعب الفلسطيني. بل على العكس، تعززت القناعة الدولية بأن ما يحدث في غزة هو نتيجة مباشرة للحملة العسكرية التي تتعمد استهداف الأبرياء دون تمييز، كان من نتائجها تصعيد الإدانات ضد الاحتلال وتمهيد الطريق لإدانة قيادات الاحتلال بارتكاب جرائم الحرب والإبادة جراء انتهاكاتهم الجسيمة للقانون الدولي. وأدى ذلك إلى اهتزاز صورة الكيان وتمزق سرديته –التي ما فتئ يجملها ويرممها طيلة عقود– في نظر المجتمع الدولي شعوبا وحكومات، وذلك باعتبار المآسي الإنسانية التي يعانيها الفلسطينيون ناجمة عن القوة العسكرية المفرطة والعمليات العشوائية التي استهدفت المدنيين، وليس عن ممارسات المقاومة.

إن الرجوع إلى الوراء قليلا يحسم الجدل في موضوع انتصار غزة، فمجرد القيام بعملية تحليل بسيطة لأهداف جيش الاحتلال المعلنة، يتضح أن أغلبها لم تتحقق بالرغم من الضغوط العسكرية الهائلة وحجم الدمار الكبير. فقد كان الهدف الأبرز لجيش الاحتلال القضاء على المقاومة في غزة بشكل نهائي، إلا أن النتائج جاءت معاكسة تماما. ففي ذروة القصف والدمار، ظلت المقاومة صامدة وواصلت عملياتها العسكرية في مواجهة الاحتلال، بل ازدادت ضراوة في الأسابيع الأخيرة مع ما يعرف “بخطة الجنرالات” الرامية لتغيير الحقائق على الأرض. هذا الصمود كان منبعه بالأساس صمود سكان شمال القطاع لمخططات التهجير الموازية، والتي كانت تمهيدا لتفريغ غزة من سكانها، والذي باء هو الآخر بالفشل. فرغم المجازر الوحشية والتهجير القسري الذي تعرض له العديد من الفلسطينيين، بقيت غزة صامدة بأهلها الذين تمسكوا بأرضهم ورفضوا مغادرتها.

أما استسلام المقاومة أو رفع الراية البيضاء، فقد بقي مجرد وهم بعيد المنال. فرغم ما تكبده قطاع غزة من خسائر بشرية ومادية جسيمة، لم يتحقق الاستسلام الذي راهن عليه الاحتلال. على العكس، استمرت المقاومة في القتال بكل قوة وعزيمة، متشبثة بإرادتها وصمودها. أما ما كان يعول عليه من حسم سريع للحرب، فقد ظل غائبا تماما بحيث أن الحرب على غزة لم تكن لا قصيرة ولا حاسمة، بل استحالت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، فشلت في تحقيق أي من أهداف الاحتلال. ولم يكن هناك “نصر خاطف” كما خطط له، بل استمر الفلسطينيون في مواجهة الاحتلال بثبات، محولين حلم الحسم السريع إلى سراب لا وجود له على أرض الواقع. وفي ذات السياق، أخفق الجسر المائي الأمريكي الذي تم الترويج له كوسيلة إنقاذ اقتصادي وتنموي لقطاع غزة تماما في تحقيق أي نتائج ملموسة. فرغم الإعلان عن العديد من المشاريع والخطط، ظلت الأوضاع على الأرض كما هي. واستمرت الأنروا، التي كانت محورا للضغوط الدولية المتواصلة على غزة والفلسطينيين بشكل عام، في أداء دورها رغم العقبات المالية والسياسية التي واجهتها. ولم يتراجع عمل الأنروا بشكل كبير، بل استمرت في تقديم الخدمات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، مما شكل دليلا واضحا على فشل محاولات تصفية القضية الفلسطينية وطمس حقوق اللاجئين.

لقد شهد العالم أثناء الدقائق الأولى لسريان وقف إطلاق النار، حسم الجدل المشتعل في الغرف المغلقة المتعلق ب”اليوم التالي”. وهو ما أظهرته تصريحات “بايدن” قبل ذلك، والتي تعكس تفاعله مع المشهد السياسي والعسكري في غزة، وتكشف عن العديد من الأبعاد التي تتعلق بالتحولات في موازين القوة والصراع في المنطقة. فحين وصف المفاوضات التي قادت إلى هذا الاتفاق بأنها “الأصعب” في مسيرته، كانت عبارته إقرارا صريحا بتعقيد هذا النزاع وخصوصيته. ويبدو واضحا أن هذه التحديات لم تكن منفصلة عن صمود المقاومة الفلسطينية، التي فرضت واقعا جديدا على الأرض وأعادت تشكيل معادلات الصراع رغم كل الضغوط.

إن التعبير عن أن “اتفاق غزة كان مقررا له ألا يكون” يعكس حقيقة أن الحرب كانت تهدف بشكل أساسي إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية، مع التركيز على تفكيك حركات المقاومة، وإضعاف قوتها العسكرية والسياسية بشكل جذري. هذه الرؤية الإستراتيجية للإدارة الأمريكية التي راهنت على القضاء على المقاومة كقوة فاعلة في المنطقة، وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية على المدى البعيد. فعندما قررت الولايات المتحدة قيادة الحملة العسكرية وتقديم الدعم اللامشروط لجيش الاحتلال بالقوة النارية الضخمة والتقنيات المتطورة وقيادة حملات التأييد وعرقلة أي محاولة لوقف الحرب، كانت تلك خطوة ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى “حسم” الصراع مع المقاومة، وتحويله إلى معادلة لا يمكن حلها إلا باستخدام القوة المفرطة. ومع ذلك، لم يكن كافيا لكسر إرادتها وصمودها، والتي ظلت ثابتة في مواجهة الهجمات، مؤكدة أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتغيير الواقع الذي تفرضه المقاومة.

وبالعودة إلى تصريحات “بايدن”، يعكس حديثه عن “التفاوض الصعب” تحولا هاما في موازين القوة. فعلى الرغم من التحديات الهائلة، أصبحت المقاومة الفلسطينية قادرة على التفاوض من موقع قوة، وهو أمر يراه “بايدن” استثنائيا مقارنة بالحروب السابقة. ومما يلفت الانتباه في هذا “الاتفاق” هو أن المقاومة الفلسطينية حافظت من خلاله على “مكانتها السياسية”، ما يعكس تحولا عميقا في هويتها السياسية والشرعية، وهو تحول لا يقتصر فقط على مستوى التنظيمات العسكرية. ففي الفترات السابقة، كانت المقاومة غالبا ما تُصور كجماعة مسلحة تفتقر إلى قاعدة سياسية أو رؤية واضحة للمستقبل. ولكن مع هذا الاتفاق، أصبح من الواضح أن المقاومة الفلسطينية لا تقتصر على تنظيمات عسكرية، بل هي حركة سياسية ذات مشروع وطني يحظى بالشرعية في الأوساط الإقليمية والدولية. ونتيجة لذلك يُنظر إليها اليوم ليس فقط كطرف عسكري بل أيضا كفاعل سياسي محوري في صياغة مستقبل فلسطين والمنطقة. وهذا لا يعني أن المقاومة قد “قلبت الطاولة” على الاحتلال بالكامل، بل يعني أنها، رغم حجم القصف الهائل والدمار الذي لحق بها، استطاعت أن تحافظ على هويتها السياسية، وتمثل مشروعا ذا مصداقية يتجاوز البعد العسكري ليعزز من موقفها على الساحة الدولية.

باختصار، يُعد “اتفاق غزة” بمثابة اعتراف واضح بقدرة المقاومة الفلسطينية على تغيير معادلات الصراع في المنطقة. هذا الاتفاق الذي تم الوصول إليه بمشاركة وإشراف إدارتين أمريكيتين، ما يبرز قدرة المقاومة على الحفاظ على كيانها السياسي والعسكري على الرغم من الضغوط الكبيرة. وبذلك تكون المقاومة قد نجحت في إرساء معادلة جديدة، حيث أصبح لها دور مؤثر في تحديد مصير المنطقة سياسيا وعسكريا، متجاوزة بذلك مجرد كونها حركة مسلحة لتصبح حركة سياسية ذات مشروع شرعي ومستدام، قادر على مواجهة أقوى القوى العسكرية في العالم.