story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غزة.. الهزيمة اسمها التهجير

ص ص

اتضحت أخيرا أهداف المحور الدولي المستهدف لغزة بعدوان وحشي منذ قرابة العام ونصف العام، وهي إخلاء الأرض من أصحابها وحملهم على الرحيل مقابل توطين المزيد من المحتلين والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية.

ففي اللحظة التي يظن فيها العالم أن الاحتلال قد وصل إلى أقصى ما يمكن ارتكابه، يفاجئه مرة أخرى بقدرة جهنمية على إعادة إنتاج الشر، ليس فقط في صور أكثر دموية، بل في خطط أكثر وقاحة وعلنية.

وما نراه اليوم في قطاع غزة، ليس مجرد تصعيد عسكري جديد، بل مرحلة تنفيذ فعلي لخطة استراتيجية عميقة ومركبة: تهجير السكان كاسم “حركي” لهزيمة المقاومة، وكحل بديل عندما تعجز القوة العسكرية عن الحسم في الميدان.

ما كانت إسرائيل تهمس به في غرف “الكابينت”، صار يُنشر في الصحف العبرية والغربية: نزع سكان غزة من الأرض مقابل تحرير أسرى، وإجلاء مقابل بقاء، واحتلال مقابل أمن مزعوم.

ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية لم تولد من فراغ، بل من رحم إحباط عسكري، عمّقته صور واستعراضات المقاومة في لحظات تسليم الأسرى، يتزايد رغم آلة القتل الجهنمية.

فبعد شهور من القصف والتجويع، وبعد إيقاع آلاف الشهداء ومئات المجازر، لا تزال المقاومة الفلسطينية، حسب التقارير والتحليلات الميدانية، تحتفظ ببنيتها القتالية، وجاهزيتها للمواجهة البرية، بل وتخرج في كل جولة تبادل للأسرى بمظهر المنظّم الممسك بالأرض والسلاح والرهائن.

هنا، تدخل الخطة الجديدة حيّز التنفيذ: قضم أرض القطاع موقعًا تلو الآخر، ثم التلويح بتبادل الأسرى مقابل تلك المواقع. لعبة جديدة تتحوّل معها الأرض إلى رهينة. فإذا فشلت الصفقة، يتم تثبيت الاحتلال على الأرض وتوسيع النطاق لاحقا، بانتظار تهجير أكبر عدد ممكن من المدنيين نحو الجنوب.

ولا شيء يوازي فجاجة هذه الخطة سوى محاولات إعطائها غطاء إنسانيا. فيُسمّى التهجير “مغادرة طوعية”، كأننا أمام موظفين يتم صرفهم عن الخدمة مقابل معاش. وتُنشأ “هيئة لإدارة الهجرة”، وتُعرض رزم من الدولارات مقابل فتح ممر نحو سيناء أو البحر أو أي منفذ يؤدي إلى الخلاص… لا من الجحيم، بل من الوجود الفلسطيني في أرض فلسطين.

لكن محور هذه الخطة ليس غزة وحدها، بل مصر نفسها. القاهرة، بثقلها الجغرافي والديموغرافي والسياسي، تحولت إلى حجر الزاوية في المشروع الأمريكي-الإسرائيلي، كبوابة يُراد فتحها بالقوة أو بالترغيب. فإما أن تفتح سيناء كمنطقة استيعاب، أو تُخنق مصر اقتصاديا وتُحاصر دبلوماسيا.

وهنا تفهم الزيارات المتتالية، والرسائل “الأخوية”، والضغوط المبطّنة التي ترافق الوعود المالية.

ومع ذلك، وعلى الرغم من شبح الإفلاس الاقتصادي الذي يخيم على مصر، فإن البيانات الرسمية الصادرة عن الدولة، وآخرها من الهيئة العامة للاستعلامات، كانت صريحة وقاطعة: لا تهجير ولا استقبال، لأن ما يُعرض ليس مشروع إنقاذ إنساني، بل تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وتهديد مباشر للأمن القومي المصري.

هذه الخطة ليست جديدة بالكامل، لكنها اليوم تُنقّح وتُنفّذ بصيغتها “الممكنة”، بعد فشل الصيغة “الكاملة”. والمرعب في الأمر أن المجتمع الدولي، بدل أن يقف ضد الجريمة، ينخرط في تحسين شروط ارتكابها.

وما يتم فعله اليوم في غزة هو قتل بالبطء، تجويع ممنهج، تدمير للبنية التحتية للماء والغذاء والخدمات، بما يدفع السكان إلى الرغبة في الفرار من جحيم مقصود ومدروس بدقة.

بل إن الفكرة الأخطر هي تحوّل المساعدات الإنسانية نفسها إلى أداة تهجير، حين يُطلب من الدول استيعاب “الفلسطينيين الخارجين من غزة” كجزء من حل “أخلاقي”، بينما هم في الحقيقة مطرودون تحت التهديد بالموت أو الجوع أو القصف.

والمفارقة المسمومة هي أن تُقدَّم غزة اليوم كمشكلة “ديموغرافية” وليست كقضية تحرير وطن محتلّ.

يُراد لنا أن ننظر إليها كعبء سكاني، لا كجزء من خارطة فلسطين، وأن نقبل برحيل سكانها من أجل “السلام”، لا من أجل المشروع الصهيوني.

هذا ما يجعلنا أمام لحظة مفصلية، لا في تاريخ غزة وحدها، بل في مسار الصراع العربي الإسرائيلي بأكمله.

إن الخطر لا يكمن فقط في أن تنجح إسرائيل في تهجير عشرات الآلاف من سكان غزة، بل في أن تتحوّل هذه السابقة إلى نموذج يمكن تعميمه في الضفة الغربية لاحقا، وفي مخيمات الشتات، وفي مدن الداخل، ليُستكمل بذلك فصل الختام في نكبة ممتدة منذ 1948.

أما في الجانب العربي، فإن السؤال الأهم ليس فقط: هل سترفض الدول استقبال الفلسطينيين؟ بل: هل ستفعل شيئًا لمنع وقوعهم تحت خيار الموت أو الرحيل؟

الصمت جريمة، والتأجيل تواطؤ، والتذرع بالواقعية تسويق للهزيمة. وغزة ليست اختبارًا للفلسطينيين فقط، بل للعرب جميعا: فإما أن تبقى غزة في مكانها، أو تتزحزح معها كل الحدود.