story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

غريبٌ.. أمر هذا الانتقال الديمقراطي!

ص ص

منذ سنوات ونحن نسمع عن “الانتقال الديمقراطي” في المغرب، وكأنه وعدٌ مؤجل أو مسار لا ينتهي. كل دورة انتخابية تُسوَّق على أنها لحظة مفصلية ستنقل البلد نحو ديمقراطية أوسع، لكن سرعان ما يتبين أن المشهد يعيد إنتاج نفسه بوجوه جديدة على خريطة قديمة. الغريب أن هذا الانتقال الديمقراطي، كما يُقدَّم في الخطاب الرسمي، يبدو وكأنه عملية أبدية أو غامضة إن صح التعبير، انتقال لا يصل، ومسار لا ينتهي، وكأن الديمقراطية قوسٌ يُراد له أن يبقى مفتوحا.

لكن دعونا ننطلق فقط من الدستور الحالي للمملكة، حيث وضع تصديره معالم مستقبل المغرب دولة ومجتمعا – المستقبل الذي هو حاضرنا اليوم- وأضع بين أيدي القارئ الفقرة الافتتاحية من هذا التصدير: ” إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارھا الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودھا الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتھا المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة” . ثم كذلك أستدعي منطوق الفصل الأول من الدستور الذي نص على: “تستند الأمة في حياتھا العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”.

لا يمكن للمواطن المغربي إلا أن يستبشر آنذاك (2011) بمستقبل يعيش فيه بكرامة وتقدير؛ ينضبط لواجباته ويتمتع بحقوقه… لكن الغريب هو التراجع أو التردد المستمر في تنزيل المقتضيات الدستورية لعملية الانتقال الديمقراطي.

طبعا الديمقراطية في معناها الكوني ليست مجرد انتخابات تُنظم بانتظام، ولا مجرد تعددية حزبية تُنَظَّم وفق دفتر تحمّلات سياسي صارم، إنما هي نسق شامل من توزيع السلطة، وآليات للمحاسبة، وضمانة للحقوق، ومساحة فعلية لممارسة المواطنة. ومعظمها مفتقد في حاضرنا، حيث نجد اليوم واقع هذا الانتقال مضبوط بدقة، محكوم بسقف مرسوم سلفاً، لا يخرج عن حدود اللعبة التي ترسمها موازين السلطة الفعلية.

والأمر الغريب هنا، هو أن الانتقال الديمقراطي يُقدم في شكل “إستراتيجية دولة” وليست “مطلب مجتمع”. ما يعني أن مساره يظل مرهونا بقراءة الدولة لظرفيتها الداخلية والخارجية، أكثر مما يعكس إرادة سياسية حقيقية في تمكين المجتمع من ممارسة سيادته. وهذا ما يشبه ما تحدث عنه برهان غليون عند وصفه “الديمقراطية المعطلة” في العالم العربي بأنها ديمقراطية تُدار من الأعلى وتُستعمل كأداة ضبط وتسكين، أكثر مما تُعبر عن مطلب مجتمعي أصيل.

ولهذا، حين تُفتح النوافذ قليلا نحو الانفتاح، سرعان ما تُغلق من جديد عند أول ريح تهب، وفي الأحداث التي رافقت تنزيل الدستور ما يؤكد هذا؛ الانتخابات التشريعية 2016، احتجاجات الريف، انتخابات 2021، زواج المال والسلطة، متابعة أزيد من 30 برلمانيا بتهم الفساد أمام القضاء، وتداعيات زلزال الحوز التي يشهد عليها بقاء بعض المتضررين لأزيد من سنتين تحت الخيام بصيفها وشتائها…

وهذا الواقع كان منذ التسعينات، ولكن آنذاك قيل لنا إن المغرب يعيش “تجربة استثنائية”، وأنه ينخرط في “مسار ديمقراطي متدرج” يوازن بين الإصلاح والاستقرار. غير أن هذا الخطاب –كما نبه عبد الله العروي– لم يتجاوز عتبة الدولة الحديثة المؤجلة، أي دولة ترفع شعارات التحديث والديمقراطية لكنها تُرجئ باستمرار تفعيلها. وهكذا ترسخ في العمق شكل من الديمقراطية الشكلية التي تراوح مكانها، بحيث نتوفر على دستور متقدم في نصوصه، لكنه محدود في تفعيله؛ وأحزاب متعددة في الشكل، لكن أغلبها متشابه في المضمون؛ وبرلمان حيّ في النقاشات، ميت في القرارات.

غريب أيضا أن المغرب، رغم كل هذا، يظل يقدم نفسه كنموذج ناجح في المنطقة. والحق أن نجاحه يكمن في قدرته على إدارة التوازنات والتي تبرز في إعطاء مساحات محسوبة للتعبير السياسي والمدني، مع ضبط الخيوط الأساسية للقرار في يد المؤسسات غير المنتخبة، وأحدثها إشراف رجال الإدارة الترابية على أوراش التنمية المجالية، كأن دور المنتخبين في الجماعات هو عقد دورات المجالس ومناقشة شكلية لجدول أعمال يكاد يكون شكليا هو الآخر، بهذا التراجع لم يعد الانتقال الديمقراطي هدفا، إنما صار أداة ووسيلة لتسكين الأزمات، وتجميل الواجهة.

ومع كل هذا أجدني مضطرا لطرح سؤال حقيقي وبريئ على كل من آتاه الله حكمة قراءة الواقع المجتمعي: إلى متى يمكن لهذا “الانتقال” أن يستمر؟ فالمجتمع يتغير بوتيرة أسرع من الدولة، والجيل الجديد من المغاربة أكثر وعيا وطموحا. والشباب لم يعد يقتنع بخطاب الإصلاح المؤجل، ولا بالانتقال المتردد. للأسف، إن استمرار الخطاب السياسي الذي يسوق “المسكِّنات” عوض إطلاق الفعل السياسي الحقيقي والمسؤول، سيسهل في أي لحظة احتمالات الانفلات لا قدر الله، وهذا ما أشار إليه أودونيل وشميتر في دراساتهم حول الانتقال الديمقراطي، بحيث أن استمرار التردد في الحسم يخلق “منطقة رمادية” تهدد بانفلاتات غير متوقعة، لأن المجتمع يسبق الدولة في التحول.

وهنا يبدو أن منهجية ضبط مسار الانتقال الديمقراطي من الأعلى لم يعد ممكنا بالطريقة الكلاسكية والتي راكمنا فيها فشلا تعبنا من تكراره، بينما في المقابل مساره يجب أن يكون موائما لنضج مجتمعي يطالب بمكانته. وإذا ظلّ المغرب يراوح مكانه، بين خطاب حداثي وتردد في المسار الديمقراطي، فإن النتيجة ستكون ديمقراطية معلّقة، تُستخدم عند الحاجة وتُجمَّد عند الخطر.

كل هذا والباقي كثير، هو الداعي للاستغراب الطبيعي حقا في استمرار السماع عن “انتقال” منذ ثلاثة عقود دون أن نبلغ “وصول”. والأغرب أن نعيش في بلد حيث الديمقراطية تُعرّف بوصفها مشروعا دائما، لا واقعا قائما.

فالمغرب اليوم، يحتاج لوضوح أكثر ومصداقية في هذا الانتقال، إما أن يحوّل هذا الانتقال إلى وصول حقيقي نحو ديمقراطية فعلية، أو أن يظل عالقا في منطقة رمادية، حيث لا هو استبداد كامل ولا هو ديمقراطية كاملة.

وبين هذا وذاك، يبقى المواطن المغربي يتأمل هذا المشهد الغريب…، فحقيقة، غريبٌ..أمرُ هذا الانتقال الديمقراطي!