story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

علمانية التوفيق.. والآخرون

ص ص

من فرط الجفاف وتصحّر النقاش السياسي والفكري في بلدنا يفرح أحدُنا بمحاورةٍ بين رئيس حكومة أسبق ووزير الأوقاف الحالي ومتحدث سابق باسم القصر الملكي بشأن العلمانية. تَسْعد بالسجال من حيث هو نقاش علنيٌ، ومن حيث هو مكتوبٌ، وبين شخصيات مارست السلطة أو لا تزال، وتتحدث من داخل النسق. وإن كان أغلبها لم يغادر دائرة المحافَظَة السياسية والفكرية. أما أن يجري النقاش بشأن العلمانية، أخذاً بعين الاعتبار سياقنا المغربي بكل تعقيداته واحترازاته والتباساته وتحفّظاته، فقطعا أمر محمود، ومما يسرّ أي متابعٍ.

وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق صرّح في البرلمان بأننا “علمانيون” دون أن يحدّد على وجه اليقين هذا (النحن)، وهو ما اعتُبر “سابقة” استجلبت نقاشا واسعا.

وزير الأوقاف، المؤصّل لـ”إمارة المؤمنين” وما تستوجبه من تطوّرٍ يجعلها وفق رؤيته ضرورةً ممتدةً في التاريخ بدوافع استمرارية النظام السياسي، أراد التبيين والاستدراك على ما وصفها بـ”كلماتٍ عجلى” في البرلمان. وظنّي (وليس كل الظن إثم) أنه تلقى عن “عجالته” كلاماً غير طيّب، أو طُلب منه توضيحٍ، ما استوجب التعقيب في أكثر من محلٍّ، أولها خلال حديثه لـ”هسبريس”، ثم كتابته رسالة “مفصّلة” نشرها موقع “العمق” ردا على تعليقات عبد الإله بنكيران.

لكن، هل كان يردّ على بنكيران حقاً؟

أولا، عوّدنا أمثال أحمد التوفيق أنهم لا يُعَرِّضون أنفسهم لمهاوي السجال السياسي دون غاية، وبدون إذن وموافقة، خاصة في موضوع دقيق وشائك، ومشاركتهم في الغالب الأعمّ تكون لأهدافٍ تستوجبها مصلحة الدولة.

وثانيا، وجب لفت النظر إلى أنه قبل يوم من رسالة التوفيق كتب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي السابق حسن أوريد نقدا لاذعا ضمن “أربع مفارقات مقلقة” بنظره، قال إنها “تَشي باندحار فكري مريع، وأخلاقي مهول” (هكذا)، إحداها تصريح وزير الأوقاف عن “علمانيتنا”. بل إنه جزم بأنه “ليس لوزير الأوقاف أن يقول بذلك، أو يُقرَّ به”، وأنه “لا يسوغ له أن يجهر بذلك من منطلق المسؤولية”.

أوريد، مؤلف “السياسة والدين في المغرب: جدلية السلطان والفرقان” (2020)، يقرّ بوجود علمانية وهو يشير إلى أن “الوزير لم يأتِ بجديد، لأن واقع الحال يفيد أن هناك علْمنة مع وقف التنفيذ”، ووجه اعتراضه الأول أن يقولها وزير الأوقاف حين “يُفشي” ما كان يجب ألا يُفشى. وثانيا خَوْضُ التوفيق، بصفته وزيرا للأوقاف في “دولة إمارة المؤمنين”، في “مرجعيات أخرى”، وهو الذي “لن يعدم استشهادات من مرجعية إسلامية حول “تدبير الشأن الديني” في المغرب، في اتجاه الرفق، وخفض الجناح، وعدم الغلو”.

وفي اعتقادي، ما كتبه أوريد أشدُّ وطأةً وأكثر وقْعاً من تعليقات بنكيران. وهذا يُسوِّغُ، في رأيي، القول إنّ بنكيران كان قناةَ تبليغ وتفسير واستدراك أكثر منه مقصودا وحيداً بالرسالة، واختيارُ أمين عام العدالة والتنمية عنواناً للردّ لربما حكَمَته نفعيةٌ لجهة تحقيق التداول وانتزاع الاهتمام بصفته رئيس حكومة سابقٍ، وأيضا رئيس حزبٍ ينهل من “المرجعية الإسلامية”، وكذلك باعتبار شخصِ بنكيران مُجَرّداً من كل الألقاب. وفي الحد الأدنى، تبليغه عبر رسالة مفتوحة بوجوب وقف المزايدة في موضوع لا يحتمل أي مزايدة.

ولعلّ هذا ما فهمه بنكيران، الذي ألحّت الرسالة على وصفه بـ”الرئيس”، فاعتذر. وعموما، بنكيران لم يقل خلال خطابه في أولاد برحيل بتارودانت شيئا كثيرا غير تأكيدات عامة على أن المغاربة مسلمون، وأن الدولة إسلامية، والتشديد على مركزية إمارة المؤمنين في بنية النظام السياسي المغربي. ولا أرى أن في هذا شيئاً ممّا يمكن أن يكون موضِع خلاف مع الوزير التوفيق.

في المقابل، ردُّ حسن أوريد كلامٌ آخر في ميزان “رجال الدولة”، ومستوىً من النقد من داخل “عقل السلطة” لا يمكن القفز عليه، باعتبار قائله، وما قاله تحديدا وهو يقرّع “القيّم على الشأن الديني بالمغرب” (كهذا وصفه).

التوفيق خلال رسالته إلى بنكيران، ومن يقصده بها، سَحَب نفسه من القول بعلمانية الدولة، لكنه توسّع، في المقابل، في إظهار أوجه “اقتباساتٍ” ساريةٍ في كيان الدولة من “النظام الغربي العلماني”، ضمن “خلطة (..) متأصلة في مطبخ العلمانية”.

بصيغة أخرى. لئن نفى التوفيق علمانية الدولة، فإنه أثبت “علمانية في الدولة” فيما أسماها اقتباسات من النظام العلماني الغربي تتعايش مع “دولة إمارة المؤمنين” التي يعتبرها ضمانة عن الانزلاق إلى الدولة اللائكية ( المعادية للدين) وليس فقط العلمانية ( المُزايِلة للدين)، وأيضا حائلةً دون السقوط في دولة الثيوقراطية المفضية إلى الخروج من العصر.
وزير الأوقاف، محقّق “مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال”، احتمى بنفس أساسِ ترافع بنكيران وهو يؤكد أن “إمارة المؤمنين تحمي كليات الدين وقطعيّاته، ولولا ذلك لعشنا العلمانية التي لا مرجع فيها سوى الأغلبية”.

فهل من تناقضٍ جوهري بين التوفيق وبنكيران؟ قطعا لا.

وما يدعم زعمي أنه يقصد حسن أوريد أولاً، إشارته إلى “أقنعتُ محاوري بأن كل القيم العقلانية المتعلقة بالاجتهاد، في حرية، هي التي عليها العمل في سياقنا، سياق حرية الدين التي هي أصل في الإسلام، وإنما النعمة عندنا أن إمارة المؤمنين تحمي تلك القيم المجتمعية من جهة الدولة، وتحمي الدين بتيسير العبادات كمطلب أساسي لأغلبية الناس، وهو ما يتوافق مع جوهر تلك القيم العقلانية إلى أقصى حدود الاجتهاد”. وهنا كأنه يجيب عن نقد أوريد الذي قال إن وزير الأوقاف “لن يعدم استشهادات من مرجعية إسلامية حول “تدبير الشأن الديني” في المغرب، في اتجاه الرفق”. وهذا وجه اعتراضٍ لم يطرحه بنكيران.

وعليه، يبدو ردّ وزير الأوقاف جواباً في كثير من جوانبه على ما لم يطرحه أمين عام العدالة والتنمية الذي اتهمته الرسالة بـ”التشهير” ( وقد بالغتْ في الوصف). وبذلك يجوز تأويل ردّ التوفيق إلى أنه تعليقٌ غير مباشر على انتقادات أوريد، الذي تحدث عن وجه من أوجه التناقض و”خشية التنافر” حين تقرير أن “المغاربة علمانيون” في ظل وجود مؤسسة إمارة المؤمنين، ليُعقّب وزير الأوقاف بقوله: “أنا لم أذكر الدولة؛ لأن الدولة دولة إمارة المؤمنين، وأنت تعرف أنني، بفضل الله، خديماً في باب تدبير الدين منذ أزيد من عقدين من الزمن”.

وأزيد للتأكيد، أن بنكيران لربما فهم أنه ليس المقصود الأوحد برسالة التوفيق، وإن استعمله قناةَ تبليغ وتفسيرٍ “لمن يهمّه الأمر”، بدليل تعقيب أمين عام العدالة والتنمية الهادئ، الذي غلَبَ عليه غزلٌ واضح وهو يخبره أن “رسالتك كان لها وقع آخر، فتناولتُ قلمي أنا المُقلُّ في الكتابة لا لأرد عليك، ولكن فقط لأوضح لك بعض المعطيات”، موضحا أنه “لم أردّ عليك إطلاقاً، ولكنني لاحظتُ أن جهات معادية ومغرضة أرادت أن تستغل تصريحك لتركب عليه وتقرر في أذهان الناس ما لا تقبله أنت ولا أنا”، وزاد أن “المقصود مباشرة هم المستغلون سَيِّئُو النَّوايا الذين يتربَّصون بالبلد وبمرجعيته وبثوابته الدوائر”.

أعيد سؤالا طرحته أعلى: هل من تناقضٍ بين الرجلين؟ قطعا لا.

وأزيد الآن سؤالا: وهل يقصد بنكيران أوريد بتصويبه على “المستغلّين سيّئي النيّة”؟ أيضا، لا.

لعلّ في جواب بنكيران المكتوب يحضر اسم آخر غير مُصرّح به، دخل على خطّ السجال تالياً: وزير العدل عبد اللطيف وهبي.

وهبي، صاحب مقولة “إمارة المؤمنين هي أيضا نوع من الإسلام السياسي”، هاجم بنكيران بشأن نقاش العلمانية، وانتقد، خلال مناقشة الميزانية الفرعية لوزارة العدل في لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين، “سيطرة الخطاب الشعبوي والمناقشات السطحية”، مشيرا إلى “زعيم سياسي تحدث عن موضوع يجهله، ومن يجهل شيئا يجب عليه الابتعاد عن الخوض فيه”.

ومعلومةٌ ردود بنكيران على كثير من تصريحات وهبي في علاقة بمواضيع قريبة من المرجعية الإسلامية والعلمانية والدولة المدنية. ولعلّ بنكيران عمد في ردّه إلى “تحييد” التوفيق ( وما يُمثّله) ونزع فتيل أي لبس معه، لكنه خاطب وهبي (وآخرين على شاكلته) من خلال وزير الأوقاف كما فعل التوفيق لمخاطبة أوريد، حيث هاجم أمين عام العدالة والتنمية “الذين أرادوا استغلاله لأغراض سيئة في أنفسهم، لذا أعلن أنني متمسك بتصريحي ومعتز به”. وفي اعتقادي، فإنه بذلك يضع حدّا لسجال غير مرغوب مع رجل دولة بقدر وزير الأوقاف المثقل بالرمزيات، ويواصل نقاشا مفتوحا مع فاعلٍ سياسيٍ “بَعُدَتْ بينهم شُّقَّةُ الخلاف” وبانَ التناقضُ بينهما.

قصارى القول

الردود والردود على الردود تمرينٌ مفيد، وكل أطرافه محمودة على الإفادة، ولا يخشى من النقاش إلا من استغنى برأيه عن آراء الناس، وأراد الإلزام به على أنه الحقيقة. وإلا فإنه في دولة عصرية وحديثة يكون جديرا بالناس أن يتناقشوا، ولا يخشون تبعات كلامهم. وإن النقاش في إمارة المؤمنين والبيعة والانتخابات والدولة المدنية والعلمانية و.. ليس ترفا أو كلامَ نخبٍ بلا أثر في حياة الناس، بل هو المحدّد للمسارات والناظم للاستراتيجيات والراسم للسياسات، والمحدّد لشكل علاقتنا بالدولة والقانون. وإن كان النقاش الآن جارياً بين محافظين، فسيكون مفيدا أن تلتحق نخبٌ من خارج هذه الدائرة لبسط قولها وللدفع بهذه المحاورة إلى مساحات أكثر ثراءً، تربط كل ذلك بمطالبِ المواطنة والديمقراطية والحق في التعبير، والحريات الفردية.. بما يؤسّس لدولة المواطِنين، لا الرعايا.