عسيلة… أو حين يبتسم الضعفاء في وجه القوة
في زحمة الشاشات وضجيج الترندات، يظهر أحيانا ما يبدو في ظاهره مزحة عابرة، لكنه في العمق صوت اجتماعي مكتوم. هكذا خرج غرير العسل (عسيلة) من غابة بعيدة إلى رحابة الفيسبوك المغربي، ليصير بطلا من نوع خاص. لا سلاح له غير شجاعته الفطرية، ولا نفوذ له غير جرأته، ولا منبر له سوى الضحك الشعبي الذي يتناقل صوره ويصنع منه رمزا. وما يجهله كثيرون أن ما نراه في هذه الكوميديا الرقمية ليس إلا شكلا جديدا من أشكال المقاومة التي تحدث عنها عالم الاجتماع الأمريكي جيمس سكوت، حين كشف عن تلك القوى الصغيرة التي يختزنها الناس حين يحرمون من أدوات السلطة المباشرة.
جيمس سكوت لا يرى المقاومة في الثورة وحدها، بل في تلك التفاصيل اليومية التي يمارسها المهمشون بصمت: في السخرية، في الإيماءة، في التلميح، في النكتة التي تقال بين الأصدقاء ثم تنتشر كالنار في الهشيم. إنها مقاومة بلا شعارات، بلا دماء، لكنها أكثر دهاء من أي مواجهة صريحة. يسميها جيمس سكوت المقاومة الخفية، أو المقاومة بالحيلة، وهي أشبه بتيار تحت أرضي لا يمكن رؤيتها بشكل مباشر، لكنه لا يتوقف عن الحفر في بنية الهيمنة.
من هذا المنظور، يصبح عسيلة أكثر من مجرد حيوان صغير يهاجم الأسود. إنه استعارة شعبية عن الذات التي لا تملك القوة لكنها ترفض الخضوع. فحين يضحك المغاربة على مقاطع غرير العسل، فهم في الحقيقة يمارسون هذا الشكل من المقاومة الذي وصفه جيمس سكوت بدقة، فحين يحرم الضعفاء من القول، فإنهم يتكلمون بالإشارة، وحين يمنعون من التظاهر، فإنهم يبتكرون المراوغة…
إن الضحك في هذه الحالة ليس تنفيسا فقط، بل لغة رمزية للتحدي. فكما لاحظ جيمس سكوت في دراساته عن الفلاحين في ماليزيا، فإن أكثر المجموعات خضوعا قد تمتلك أشكالا دقيقة من العصيان الرمزي، تمارسها تحت ستار الطاعة، ولكنها تبقي جذوة الكرامة مشتعلة. وهكذا، حين يتداول الناس اسم عسيلة كرمز للجرأة، فهم يعلنون بطريقة ساخرة أن الخضوع ليس كاملا، وأن الهامش ما زال قادرا على ابتكار بطولاته الصغيرة.
إن هذه المقاومة اليومية التي تمر عبر المزاح الشعبي، تذكرنا بأن الضحك نفسه يمكن أن يكون سلاحا. فكما يشرح سكوت، إن الضعفاء لا ينتظرون دائما الثورة الكبرى ليعبروا عن رفضهم، بل ينسجون في حياتهم أشكالا من الرفض الرمزي تحفظ توازنهم الداخلي وتمنحهم شعورا بالسيادة ولو لحظة.
وعسيلة هنا يقوم بهذا الدور تماما: يمنح الناس إحساسا بالانتصار الرمزي، بأن هناك من يجرؤ على مواجهة الأقوى، ولو كان مجرد حيوان في مقطع قصير.
في جوهر الأمر، ما صنعه المغاربة من عسيلة هو نوع من الأسطورة الشعبية الحديثة، تعيد إنتاج المفهوم الذي صاغه سكوت: أن المقاومة لا تحتاج إلى جيش ولا إلى خطاب أيديولوجي، بل إلى خيال جمعي قادر على تحويل الهزل إلى جد، والضحك إلى احتجاج، والضعف إلى علامة قوة.
وحين تتأمل انتشار هذه الصورة، تدرك أن الناس لم يكونوا يبحثون عن الحيوان ذاته، بل عن أنفسهم فيه. يرون في عسيلة الذات الجماعية التي فقدت صوتها فاستعادت جرأتها عبر رمز بريء، يعبر عنهم أكثر مما يفعل أي خطاب سياسي.
في النهاية، يمكن القول إن عسيلة لم يكن مجرد ترند، بل درس اجتماعي في المعنى الذي يخلقه الناس حين يبتسمون في وجه السلطة، ويحولون الهشاشة إلى طاقة رمزية. إنها تطبيق مغربي طريف لفلسفة جيمس سكوت: حين يُمنع الضعيف من الصراخ، فإنه يضحك، وحين يُغلق الباب في وجهه، يطل من نافذة الميم.