عبد الإله التيكتوكور.. أو البوعزيزية الناعمة!

ضجت الساحة المغربية الافتراضية والواقعية طوال الأسابيع الأخيرة، حول الشاب العشريني ذو الابتسامة الواسعة، المراكشي اللكنة والإقامة، وهو يقود مغامرة تخليق العملية التجارية عبر تسقيف الربح الذي شمل سلة متنوعة من المنتوجات البحرية، وسط مشهد مثير للفضول، يشاركنا عبره الشاب عبد الاله الشلوخي؛ حواره مع زبنائه المرابطين حول سلعته البحرية، ومع ملايين المتابعين المشدودين إلى محتواه على مواقع التواصل الاجتماعي، موثقاً بأمانة البث المباشر عقيدته في الفعل المواطناتي، ومختلف الخطوات العملية التي قطعتها مقاربته لمحاربة السلطوية الاقتصادية وديكتاتورية السوق “الحرة” واليد التي تحكم القبضة على “حرية” المنافسة>
فماهي خصائص مقاربته في إدارة خطوات العملية “الإصلاحية” لمحاربة سطوة ” الوسطاء” من أجل تمكين ” البسطاء” من اقتناء مادة “السردين” وغيرها من المنتوجات البحرية الوطنية؟ هل ما حدث هو مؤشر على “بوعزيزية” ناعمة تهز أركان عقيدة اقتصادية استبدادية، مُستندة إلى وعي شبابي بإمكانية التغيير الآمن في سياق محفوف بالمخاطر والشكوك، دون السقوط في مواجهة السلطوية المركبة ومتعددة الأذرع والأوجه والأدوات؟ و ما تراها مآلات الصيغ المغربية للتغيير والإصلاح، المعتمدة على مبادئ الديمقراطية التمثيلية، والنضال المؤسساتي، المثقل بالبنيات المؤسسية والقانونية والإدارية الضخمة والهياكل الحزبية والانتخابية البيروقراطية، التي تراكم ضعف النجاعة ونكسة الثقة في فعاليتها وجدواها؟
وقف الرأي العام أمام مفارقة شاهقة، غير مستوعبة، عنوانها فعالية المبادرة الفردية/المفتوحة، التي توفرها الشبكات التواصلية المتاحة مقابل “عنة” مؤسساتية بنيوية، تَشُلُ الزمن الاصلاحي والمجتمعي والتنموي. إذ ستنجح المبادرة التغييرية للشاب عبد الاله الشلوخي في التأسيس لعقيدة ثورية في تدبير العلاقة بين المنتج والمستهلك، في زمن قياسي لا يتعدى بضعة أسابيع، في حين تتكدس مطالب وتوصيات إصلاح سلاسل التسويق وتسقيف الأسعار وتخليق الأرباح وحماية المنافسة، وحماية القدرة الشرائية وحماية المستهلك وغيرها دون جدوى -في الجريدة الرسمية ومكاتب مجلسي النواب والمستشارين ورفوف الإدارات الوصية والمناظرات الوطنية والجهوية والقطاعية وغيرها.
إذ ستستغرق المبادرة “التغييرية” للشاب عبد الاله الشلوخي بضعة أسابيع مذ إعلانه عن “السر” الشائع لدى الادارة والسلطة والوزارة والوسطاء والوثائق الرسمية، لدى أسواق السمك والسماكين، بشأن الثمن الذي يُقتنى به منتوج السردين وغيره من خيرات البحر والمحيط من قوارب صيده في أول عملية بيع، سيقرر الشاب العشريني أن يُسقف أرباحه بهدف تمكين “البسطاء” من استهلاك المنتوج البحري الوطني الذي اشتعلت أسعاره بشكل مطرد في الأسواق المغربية ، وسيتقاسم عبر منصات تواصلية مختلفة، مبادرته المطعمة بالفرجة من أجل دمقرطة ولوج المغاربة للحق في جود الله في ثرواتهم الطبيعية، قبل أن يفتح عليه منافسوه أبواب التضييق والمحاصرة، ليخرج منتصراً من مقر ولاية مراكش، محمولا على أكتاف الزبناء المرابطين أمام معروضاته البحرية، وعلى هواتف وحواسيب المتابعين الذين انفجر اهتمامهم ليتجاوز ملايين المشاهدات والمتابعات و”التكبيسات”.
ستعتمد ” البوعزيزية الناعمة” في إسقاط نظام الوسطاء ذوي الربح اللاأخلاقي، على سياسة تواصلية تتأسس من جهة، على تحييد الخطاب من أي أثر لمرجعية نضالية معينة سياسية، إيديولجية أو فكرية، حزبية أو جمعوية أو غيرها، مستعيضة عنها بمقاربة “إحسانية” يؤطّرها خطاب تربوي توجيهي شعبي غير مُسَيّسٍ، يحث الشباب على السعي للعمل، القرب من الخالق و نبذ الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، وتجنب تعاطي المخدرات والهجرة السرية، ويربط مسألة تخليق الربح بمبادرة أخلاقوية فردية تحل محل مفهوم العدالة الاجتماعية المرتبطة بالإصلاح السياسي والقانوني والمؤسساتي لصالح منظومة البسطاء التي تحتل بدورها موقع منظومة المواطنة والحقوق والواجبات.
ثم فيما يشبه احتماءً واضحا من التأويلات المغرضة للحالة النضالية التي تنز من المحتوى التواصلي ل”البوعزيزية الناعمة”، ستختار هذه الأخيرة صف “الوطنية الإذعانية”، التي تُرسي قواعدها -فيما أرى- على فرض سلطة الواقع وإرادة صُنّاعِهِ، وتحتكم إلى محاكم التفتيش ذات المرجعية القسرية -غير القابلة للنقاش أو التفسير- للمصلحة الوطنية وللاختيارات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية -غير القابلة بدورها للنقاش واستشراف الجدوائية – وهنا يتوجب الوقوف على المقاربة التي تم بواسطتها توظيف ورقة الملك، لإنجاح فكرة التحييد والاحتماء من احتمالات التورط الوارد في اشتباك مع مقتضيات القانون الجنائي، إذ يبدو أن ” البوعزيزية الناعمة” تشربت بشكل كامل و كاف وشاف من رحيق العقيدة الراسخة للسلطة وتعاليم “الوطنية الخدماتية” القائمة على تخليص المبادرات النضالية من الشوائب السياسية أو الإديولوجية، وبتر القناعات التي تربط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالإصلاح السياسي والمؤسساتي والدستوري ، واختصار الانتماء إلى الوطن في وظيفة الانخراط السلبي في كل ما يصدر ب”عمودية ” عن السلطة والحاكمين.
وفي مقاربة تعبير ” عالم ثالثية” عن حب الوطن واحترام رموزه والذود من أجل قضاياه وتحدياته، وبين شخصية التاجر الذكي الحذق وفاعل الخير القنوع الطيب وصانع المحتوى الفرجوي، يكتب الشاب عبد الاله الشلوخي صحيفة اقتصاص البسطاء من الوسطاء.
فهل تعتبر هذه إذن هي المقاربة الفضلى والآمنة لضمان الولوج للحقوق والاستفادة المتساوية من مجهودات وثروات بلادنا؟ هل يشكل نمط المواطنة ” التي تكرسها ظاهرة “البوعزيزية الناعمة” نموذج المواطنة الفاعلة في بناء الوعي والمسؤولية والالتزام؟ هل اخْتُزِلَتْ رهانات دولة المواطنة في ضمان حسن سير تجمعات طوابير مريدين “بسطاء” يئنّون تحت سطوة “الوسطاء” فيتسولون “مسيح” الأسماك، وبعدها “مُخَلِص” اللحوم و لم لا “مُبشِر” المدارس الخاصة” و”حامل وحي” الخدمة الصحية والدواء، و هل تجوز مناولة مسؤولية الدولة والمنظومة المؤسساتية برمتها في ضمان ولوج المغاربة لحقوقهم الدستورية بواسطة وكلاء خاصين، ومُبادِرينَ أفراداً، مُحصّنين بشرعية افتراضية مدرة للسلطة والمال، يستعوضون عن الربح المباشر بمداخيل “الأدسنس” و رواج “التكبيس” والمتابعة وسلطة التأثير الافتراضي؟
وهل يمكن الوثوق بمشروعية مؤسسات تنهزم بالضربات القاضية أمام خصوم من صف الهواة، وتستسلم لسطوة السوق بالعجز أو بالتواطؤ، وتوكل مُهمة حفظ النظام العام والسلم الاجتماعي لمبادرات الصدفة والتراند والأدسنس؟
وأنا أتايع الشاب عبد الاله الشلوخي، متنقلا بين صناديق سلعته، على أنغام موسيقى جيله، مسافراً من ميناء إلى سوق إلى مطعم، بين نكتة ودعابة ومَظلمة وموعظة، لاح لي من بعيد، الشهيد محمد كرينة، و الشهيدة سعيدة المنبهي، والمغدور الحسناوي، و الحالم أسامة لخليفي، والمعتقل ناصر الزفزافي… يحاولون تفكيك معادلة الاقتصاص للبسطاء من الوسطاء، بتطبيق مفاهيم ونظريات علم السياسة والاقتصاد وأدبيات الأحزاب وخُطَبِ الزعامات التاريخية، وبيانات الحراكات الاجتماعية، أراهم يقلبون دفاتر المطالب والاعتصامات والإضرابات العامة وحلقيات الجامعات والاجتماعات السرية والتجمهرات العلنية مُستفهمين عما يرونه؟؟ عن المنتصر والخاسر في معادلة الاقتصاص هاته؟ هل استطاع السوق أن ينظم نفسه خارج تدخل الدولة ومؤسساتها، هل كان يكفي أن نستخرج أرباحا من المتابعات والتكبيسات على موقع التيكتوك وغيره، لننجح في تخليق الأرباح بالتخلي عن بعض الربح، هل سندمج مداخيل الرواج الافتراضي كوصفة من وصفات التمويلات المُبتكرة؟ هل المواطنون والمواطنات أصحاب سلطة الفعل والحسم أم هم أعداد في سجلات زبناء السلع العينية والساكنة التيكتوكية؟ فهل هذا الشاب هو الوريث الشرعي لدور الشباب في التقدم بالأوطان وتعزيز دولة الحق والقانون والحقوق والحريات؟ أم تراه الوريث المستحِقُ بالكلالة لتركة مُتَخلى عنها، لم يَعرف صاحبها لم يَفْتَقده ولم يَبْكيه.
هل ستدفن “البوعزيزية الناعمة” نموذج المواطنة الفاعلة، واختيار الديمقراطية التمثيلية ونموذج دولة المؤسسات والدولة الراعية؟