story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

طوفان الأقصى و”ترتيب جديد”

ص ص

بعد عام، صار الطوفان يليق باسمه. طوفان حقاً وحقيقة بعد كل التداعيات التي ترتّبت عليه، وما أفضى إليه، وقد هزّ المنطقة وغيّر في الجغرافيا، وأطلق معاناةً بحجم السماء، وانتصارات. طوفان الأقصى لا يزال كتاباً مفتوحاً لم يُكتب سطره الأخير، ولا مجال ليعود أيّ أحدٍ إلى ما قبله. حدثٌ غير عادي، في منطقة غير عادية، بين أطراف غير عادية.

بعد عام، وكل تلك الآلام، والدماء المسفوكة بلا رحمة، والمقتلة المستمرة، لا يزال الجميع عالقاً في عنق الزجاجة، فلا انتصاراتٌ إلا وتخدشها انكسارات، للمقاومات ولإسرائيل.

في غزة يكاد يكون استمرار المقاومة معجزة. بعد تلك الحرب التي لا تُبقي ولا تَذَر، ينبعث القابضون على جمر الصمود من تحت ركام المواجهات، ليؤكدوا أنهم باقون. ولا يملك أحدُنا إلا أن يُعجبَ بكل هذا العنفوان، في ظل فوارق ملحوظةً ومعلومة ومشهودة.

في غزة صبرٌ من السماء. ما عاناه الفلسطينيون فوق أن يتحمّله بشر، إذ لم يقاسِ بشرٌ في العصر الحديث كما عانوا (وأين السودان وفواجع السودان؟. نعتذر أمام آلام السودانيين عن كل هذا الحيْف). ولا يليق بكل متحدث إلا أن يتواضع أمام هول تضحيات أهل غزة، ولا مجال لتغليفها بأي شعار، إلا أن يكون التحرّر ثمناً. وأي ثمن.

أما إسرائيل، وإنْ حقّقت إنجازات تكتيكية وأبادت لاستعادة ردعٍ مهزوز، فهي عالقةٌ في ورطة أنْ تُحوّل إنجازاتها إلى انتصارات، وأنّ تنقل مكاسبها إلى مستوى التحولات الاستراتيجية. وإنّ فشلَ إسرائيل على هذا الصعيد هو ما يُكرّس هجوم 7 أكتوبر طوفاناً على الاحتلال، على قاعدة أن إسرائيل غير المنتصرةِ مكشوفةٌ وأكثر قابلية للتحلّل.

بعد عام على طوفان الأقصى سيكون مفيدا أن نقرّر، بكل “تجرّد” ومسؤولية، خاصة أنصار القضية الفلسطينية، أنه حان الوقت لينزل الجميع من “شجرة التمني” لمواجهة حقيقة أنّ إسرائيل حقّقت مكاسب، وأن أوضاع الفلسطينيين أسوأ الآن (بفعل جرائم الاحتلال حصرا)، وأن تفاصيل القضية صارت أعقد، ليس في غزة وحدها، بل إن تغييرات على الأرض في الضفة لا تقلّ خطورة، وقد أخرجت إسرائيل ملفات كانت معدّة وخططا مؤجّلة للتنفيذ الفوري مستغلة الأوضاع في أكثر من محل. وليس في هذا مما يحطّ من قدرٍ المقاومة ولا صلابتها أو نواياها، مادام واضحا أن إسرائيل اقترفت جرائم غير مسبوقة ولا متوقّعة، وسلكت مسلكا عدوانيا لا نظير له في العصر الحديث.

وأن أمرا بشعاً آخر يَقِلّ الالتفات إليه في علاقةٍ بحقوق الفلسطيني، وهو أن ما كان جريمة تلقى بالأمس تنديدا حوّلته إسرائيل إلى روتين. وهذا إجرامٌ مسكوتٌ عنه في حقّ الإنسانية، أن يتحوّل قصف المستشفيات بمرضاها والملاجئ بنازحيها ضمن أهداف الحرب، أو أن يطبّع العالم مع سوابق قتل مئات المدنيين بعشرات القنابل بهدف اغتيال شخص واحدٍ، فضلا عن التوسّع في الإعدام الميداني والاعتقال العشوائي والاحتجاز في ظروف مأساوية تنتمي إلى القرون الوسطى في وحشيتها.

لم يكن يوما استهداف المنشآت المدنية وقصف مؤسسات الأمم المتحدة سلوكاً مقبولا، فضلا عن تبريره، لكن يتم تبرير هذا الهدم الممنهج للقيم الإنسانية والقانون الدولي من قبل المتحدثين الرسميين في واشنطن كل ليلة ليردّد العالم بعدهم كلاما شديد الخطورة، يبدأ من (حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، وبعده لا يعود هناك محظور أو ممنوع أو غير أخلاقي. وفي هذا تحطيم لكل أساس يتّصل بأعمال الحرب وقوانينها، وبكرامة الإنسان.

إسرائيل غيّرت شكْل الحروب، وأسّست لقواعد سلوك جديدة شديدة الإجرام. وإن توسّعها في الإبادة إلى هذا الحدّ، بالدعم الأميركي غير المنقطع، وتواطؤ الغرب وكثير من أنظمة العرب، يدفع نحو ترتيب صورة شديدة البؤس في ارتباط بتعريف الإنسان المشمول بحقوق الإنسان، وإعادة تفصيل المنطقة على حسب مقاسات إسرائيل، وبالإطّراد على حسب مقاسات واشنطن.

وإن كاتب هذه السطور مناصرٌ لا تهتزّ يده في دعم الفلسطينيين، ولا شيءَ يُضبّب أمام عينيه صورة عدالة قضيتهم، ولا يَتَصوّر حلاً أكثر عدالة إلا بانتزاع الفلسطيني حقوقه غير منقوصة بعد كل هذه الملاحم والجثامين والآلام، وعقود من المقاومة. لكن يجب التنبيه إلى أن أطماع إسرائيل تكبُر ككرة ثلج، وواهم من يعتقد أن لها سقفاً.

إن إسرائيل الموتورة بعد 7 أكتوبر صارت أكثر استعدادا للمخاطرة، وأكثر استعدادا لتحمّل الخسائر، ووجب التقاط هذا التحوُّر في جينات دولة إسرائيل “ليُبْنى على الشيء مقتضاه”. مثلما أن المقاومات أقوى مما كانت عليه قبل عقدٍ وعقديْن، كما ظهر في 7 أكتوبر حين اجتازت حدود الأراضي المحتلة وقلبت المعادلة بأن يبادر الفلسطيني لمهاجمة إسرائيل لا العكْس. ولربما هذا، مع غيره، ممّا يفسّر كل هذا الجنون الإسرائيلي، الذي يسعى إلى إنزال هزيمة نفسية بالفلسطينيين عبر “كيّ الوعي” حتى لا يكرّروها مستقبلا.

وإن تمدّد الحرب إلى جبهات أخرى قرارٌ إسرائيلي محض، مثلما هجوم 7 أكتوبر نتيجة لحصار غزة المستمر منذ 18 عاما، واحتلال إحلالي استيطاني يتوسّع منذ عقود في الضفة. والذي يبدأ قراءة ما يجري الآن مع الاحتلال الإسرائيلي من لحظة طوفان الأقصى دون الرجوع لترتيبات ما قبل ذلك التاريخ الفاصل سيخطئ في تركيب عناصر الصورة، فضلا عن أن يتمكن من قراءتها واستخلاص نتائج منها.

الآن، يعيش كل طرفٍ ورْطتَه، وفرَصه. نرصد ما يجري انطلاقا من أبرز 4 فاعلين:

1 ـ غزة

تواجه الإبادة التي صار العالم مُتقبّلا لها ومتواطئا في استمرارها، لكنها أعادت فلسطين إلى قلب الأجندة الدولية بعد مخططات تهميشها. ومقاومة غزة لا هي قادرة على إنزال يدها بعد كل تلك الآلام والتضحيات، ولا هي قادرة على قلب المعادلات وفرض حقائق ميدانية كاسرة، إلّا صمودا مدفوعا بإرادة الإنسان للحرية يكسر كل رهانٍ للاحتلال، ويُفشل كل مخطط (وفي كسر مخططات الاحتلال انتصار).

2 ـ إسرائيل

دولة الاحتلال عالقة في المكاسب التكتيكية وفي رَقَبتها جرائم تُسَوِّد صفحات بلا عدٍّ، كما غيرُ قادرةٍ على انتزاع انتصار صريح، بل وصارت عرضة للتهديد أكثر مع كل جبهة تفتحها.

إسرائيل تواجه حقائق إجرامها في الضفة، التي كانت حتى قبل سنوات قليلة “منزوعة السلاح”. لكن شبابها اليوم يقاتلون في كتائب صارت جاذِبَةً، وأكثر تنظيما. فضلا عن عمليات فدائية منفردة، ذاتية أو لحساب حركات المقاومة، تباغت الاحتلال في مدن الداخل المحتل. وما يزيد الأمر تعقيدا، التحاق فلسطنيي الداخل بالعمل الفدائي، بعد عام من العدوان تعرَّضوا خلاله لاضطهاد غير مسبوق إلى درجة محاكمة كثيرين وفصل طلاب وأساتذة جامعيين وموظفين بسبب انتقاد الحرب أو إظهار أي عاطفة نحو ضحايا غزة. على هذا الصعيد تخسر إسرائيل خسائر مزمنة، تجعلها تعيش تشكّكها باستمرار، ما يؤبّد عُقدة إمكانية زوالها، ليُدمن نتنياهو الحديث عن “حرب وجودية”.

وإن طالت المعاناة وتعقّدت الأوضاع وتسرّب بعض اليأس إلى النفوس، فإن إسرائيل ستدفع ثمن وحشيتها، وقد بدأ العالم يتزحزح ويتخلّص من رُهاب معاداة السامية، التي تأسست على فظاعات الهولوكست. العالم اليوم يتابع مذبحة العصر الحديث، وأجيال لم تعش هولوكوست النازية، تنظر اليوم في الهولوكوست الإسرائيلي.

(وا أسفي على إعلام غربي جبّار و”مهنيّ” تواطأ وقَبِل عدم إدخال مراسلين إلى غزة، حتى أصبحت الحرب الوحيدة التي تجري بلا مراسلين، بهدف ممارسة تعتيم كريهٍ على الإبادة، لكنّه، في المقابل، لم يوفّر أي فرصة لعرض قصص إسرائيليين للحديث عن هجوم 7 أكتوبر، حتى وصل مرحلة الإشباع لينتقل إلى الفبركة بشأن اغتصابات متوهمّة ومزاعم حرق أطفال في الأفران وبقْر نساء حوامل).

3 ـ لبنان

تبدو الأمور في لبنان درامية. حزب الله حين فتح جبهة إسناد غزة كان مقاوِما وقرّر ما يليق به كمقاومة، منسجما مع هويته في ترتيب مقتضى ما يعنيه الحلفاء والأقربون، والأعداء. كان يريد أن يُبقى سقف المواجهات تحت حدّ الإسناد، لأكثر من سبب، بعضها مرتبط بحساباته، وبعضها مرتبط بالداخل اللبناني. لكن إسرائيل كانت تخوض أعمال حرب كاملة وممنهجة ضده منذ 8 أكتوبر، وعلى ما يبدو كانت تتجهّز منذ اللحظة التي انتهت فيها حرب 2006. أعدّت العدة ليوم المواجهة الكبرى، لذا كانت تحافظ باستمرار على سخونة جبهة لبنان، حتى إذا أدركت أنها قادرة على نقل مركز الثقل من غزة إلى الشمال أطلقت حربها وفق أهدافها، وكذلك كان.

إسرائيل باغتت حزب الله، وتسبّبت في أضرارٍ، حتى أن أحدا ما كان يعتقد أن تغتال أمينه العام حسن نصر الله بـ70 طناً من المتفجرات (وكم قُتِل من مدني في عملية اغتيال نصر الله؟ 300 شخص بحسب ما تقول الإحصاءات. 300 ولم يلتف أحد. بشاعة)، ضمن سلسلة استهدافات متلاحقة ومستمرة ضد قادة الحزب.

إن حزب الله يخوض حرباً وجودية. والحزب، على ما تُظهر المؤشرات، يستعيد عافيته، ويرمّم خسائره، ويخوض حربه، وفق حساباته، التي صارت تبتعد أكثر فأكثر عن الإسناد إلى مواجهة حرب إسرائيلية، تتجاوز هدف إعادة النازحين إلى القضاء عليه، عسكريا، وحتى سياسيا، ضمن أراجيف “الترتيب الجديد”.

حزب الله، الذي غرقَ لربما سنوات في المبالغة في تقدير ذاته وإمكاناته، وساعدته إسرائيل على “النوْم في العسل”، سينازع ليبقى واقفا، وسيكون أخطر على إسرائيل من حزب الله حسن نصر الله. وأن يكسر الحزب هدف نتنياهو بتدميره، بعد كل الذي جرى، سيكون انتصارا إلى يوم مواجهة آخر.

4 ـ إيران

تداعيات طوفان الأقصى أخرجت إيران من منطقة الشعارات والحرب عبر الوكلاء إلى المواجهة المباشرة. الحرب مع إيران كان دوما هدفاً إسرائيليا، لكن بالنسبة لتل أبيب صارت اللعبة أكثر تعقيدا بعد الضربات الصاروخية الأخيرة، التي كانت محسوبة حتى لا تُتسبّب في أضرار كما “الوعد الصادق 1″، لكنها غيّرت قواعد اللعبة، وأكدت أن طهران يمكن أن تلعب لعبة إسرائيل: المغامَرة ثم تقييم الآثار. هذا الوضع معقدٌ بميزان إسرائيل، وأيضا بميزان إيران، التي لم تتحرك إلا حين تعرضّت مواردها، خاصة في لبنان، للإضرار الشديد.

تنتظر إيران كل يومٍ الرد الإسرائيلي، وستنْظُر في نطاقه، وفي البال انشغالٌ بعدم الانجرار إلى الردود على الردود في سلسلة متتاليات يمكن أن تجرّ إلى المواجهة المفتوحة. لا تريد إيران ذلك، لكن إسرائيل ما تركت خيارا غير المواجهة إلى هذا السقف غير المسبوق، ضمن مشهدية المشي على الحافّة.

إيران لا تريد حربا ولا تريد خسارة مواقع أقدام استثمرت فيها على امتداد عقود. إيران، باختصار، لا تريد شرقاً أوسط جديدا إسرائيلي الهوى، تفرض فيه تل أبيب نفسها سيّدا على المنطقة التي تضمّ دولا عربيةً تتطاير الصواريخ فوق رؤوسها ولا لها في العير ولا النفير، مفعولٌ بها غير فاعلة، بل أظهرت خنوعاً غير مُستغربٍ لتقبّل نتنياهو سيّدَ المنطقة بعد كل هذا الإجرام (وأيّ عار هذا).

قصارى القول

نعيش تاريخا مُكثَّفاً. نعيش لحظةً مفصلية ترسم معالم المنطقة لعقود. وإن مناصرا لفلسطين لن يضع كل الجاري إلا ضمن مسارٍ تحرّريٍ طويل ومنهك ومرهق ومكلف، بنكساته وانتصاراته. طوفان الأقصى بكل آلامه، التي لا يجب تبخيسها، صفحة مهمة ضمن كتاب تاريخ المنطقة. الطوفان فرْمل مخططات تواطأ فيها الكل لتحويل فلسطين من قضية تحرر وطني وحقوق شعب إلى ملف إنساني. الطوفان جوابُ المقاومة على حصار غزة، وعلى الدسائس وخطوات إسرائيل التهويدية في المسجد الأقصى، ومخططاتها الاستيطانية في عموم الضفة، وعلى هندسة خبيثة للمنطقة وفق ترتيبات تؤدي إلى تطبيع “فابور” مع إسرائيل، من دولٍ تنسلخ من قيمتها ورمزيتها وثقلها باستمرار لترتمي في حضن نتنياهو.

الآن “تخلطات لعرارم”، وإن كان المشهد مُربكا وخطيرا، فإنه لربما، بمعيار حركات التحرّر الوطني، أقلّ خطورة ممّا كان عليه قبل عام حين لم تبقَ إلا السعودية لتوقّع مع الموقعين ويختلّ كل التوازن. وإن بقيّةَ مقاومة صامدة في غزة (بعد عام لا تزال تقصف تل أبيب) دليل على أن إسرائيل، رغم كل جرائمها، أبعد من تصفية قضية الفلسطينيين، وأنه “حين يشبّ عمرو عن الطوْق”، سيكون هناك مجال، فعلا، لـ”ترتيب جديد”.