story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

شعب الجبارين

ص ص

لا أعرف صراحة كيف يستطيع بعض منظري الهزيمة النظر في وجوه الناس هذه الأيام، بعد آخر المعطيات الموثّقة التي صدرت عن الوضع في فلسطين: من جهة هناك انقسام ينذر بحرب أهلية في إسرائيل، وإقرار جماعي بالهزيمة أمام المقاومة الفلسطينية يحاول البعض في إسرائيل الهروب منه بإشعال فتيل حرب جديدة ضد لبنان، ومن جهة أخرى ارتفاع في نسبة شعبية حركة حماس وتزايد تأييد الفلسطينيين لها في كل من الضفة والقطاع.

“الحديث عن تدمير حركة حماس ذر للرماد في العيون… حماس فكرة وحزب، وهي مغروسة في قلوب الناس، ومن يعتقد أن بالإمكان إخفاؤها فهو مخطى… إنها فكرة ولا يمكن القضاء عليها…”. الحديث هنا ليس لأحد المتأثرين بالفكر “الإخواني” أو “القومجي”، بل هو للناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري، وعبر وسيلة إعلام إسرائيلية هي القناة الثالثة عشرة.

حديث جاء بعد ساعات قليلة من إعلان القناة الإسرائيلية الثانية عشرة، أنه ورغم حرب الإبادة الوحشية المستمرة على قطاع غزة منذ عشرة أشهر، استطاعت حركة حماس “ترميم” نفسها. ولم يكن ذلك في حقيقة الأمر سوى إيذانا بخروج خلاف عميق وقديم بين أطراف داخل دولة الاحتلال، تنشغل بمحاربة بعضها البعض موازاة مع اتفاقها على إبادة الفلسطينيين.

مصيبة بعض دعاة الانبطاح والاستسلام ممن ابتلاهم الله بداء “ما يرحمو ما يخليو رحمة ربي تنزل”، أن هذه المعطيات التي تكشف الفرق البيّن بين معسكري الحق والباطل (مقاومة أصحاب الأرض حق في مقابل باطل الاحتلال)، أن استطلاعات جديدة تناقلتها الصحف الإسرائيلية قبل غيرها، أبانت كيف أن حركة المقاومة الإسلامية حماس باتت تتمتع بشعبية كبيرة حتى في صفوف فلسطينيي الضفة.

أكثر من نصف سكان غزة، وتحديدا 60 في المئة، فقدوا أحد أقاربهم بسبب العدوان الحالي، لكن لا شهور التقتيل والدمار والإبادة أسعفت الاحتلال في قص العشب تحت أقدام المقاومين وعزلهم عن حاضنتهم الاجتماعية في غزة، ولا تشديد القبضة الأمنية وتوالي الاقتحامات والاغتيالات والاستفزازات في باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أقنعت الفلسطينيين بخيار غير المقاومة، المتجسدة حتى الآن في حركة حماس وحلفائها.

أحد هذه الاستطلاعات قال إن ثُلثي الفلسطينيين يؤيدون الهجوم الذي شنته حركة “حماس” على إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، بل إن 80% منهم يعتبرون أن هذا الهجوم جعل القضية الفلسطينية في “بؤرة الاهتمام العالمي”.

في المقابل، كشف الاستطلاع تراجع مستوى الثقة في السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس أبو مازن، وصعودا قويا في أسهم الأسير مروان الرغوثي، كمرشح قوي للفوز بالرئاسة في حال ترشحه، متفوقا حتى على زعيم حماس، اسماعيل هنية، بكل ما يمثله البرغوثي من إصرار على خيار المقاومة.

لا وزن هناك لحسابات الايديولوجيين الصغار القابعين بيننا، ولا قيمة لميزان يضع الحرية في كفة والخبز في أخرى. فكيف يعقل أن يواصل البعض النظر إلى القضية الفلسطينية الآخذة في إعادة هيكلة العالم وتوازناته، بمنطق المقارنة بين موازين القوى العسكرية والتحالفات الإقليمية والدولية؟

ألا يشعر هؤلاء أن إسرائيل اليوم تعيش إحدى أسوأ حالاتها على الإطلاق، منذ تأسيسها رسميا عام 1948، في الوقت الذي اعتقد البعض أن الفلسطينيين خسروا كل شيء، بما في ذلك الحاضنة الإقليمية التي سارعت بعض دولها إلى القفز مما اعتقده مركبا يغرق؟

لم تكذب بعض التسريبات التي نقلت عن أنظمة وأجهزة أمنية في الجوار العربي لفلسطين، دعوتها إسرائيل إلى الفتك بالمقاومة الفلسطينية في غزة، والذي لا يمكن أن يتم دون إبادة قسم كبير من سكان القطاع، لأن حماس، كما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فكرة وليست تنظيما.

وها هم اليوم الإخوة والأعداء يتفرجون، جنبا إلي جنب، علي أغلبية من الفلسطينيين الجوعى والثكلى والمنكوبين في غزة، يتوقعون انتصار حماس وعودتها إلى حكم القطاع.

بل إن الحركة تفوز بصدارة توقعات التصويت بين عموم الفلسطينيين، بحصولها على 40 في المئة من نوايا التصويت، في مقابل 20 في المئة لحركة فتح، ما يعني أن تأييد حركة حماس قد ارتفع خلال الشهور الثلاثة الماضية بنسبة 6 في المئة، مقابل ارتفاع تأييد حرمة فتح بنسبة 3 في المئة، وتراجع نسبة المترددين أو العاجزين عن حسم اختيارهم، إلى 33 في المئة.
لا سرّ في كل ما يتدفّق حاليا من معطيات. الشعب الفلسطيني الذي كان الراحل ياسر عرفات يلقّبه ب”شعب الجبارين”، يلقّن العالم درسا بليغا في صلابة صخرة الحق أمام أمواج الباطل مهما اشتدّ هديرها وتلاطمت مياهها.

والوصفة التي قدّمها الأمريكيون للإسرائيليين من أجل القضاء على حركة حماس في قطاع غزة، مع كل المقادير اللازمة وزيادة، فشلت وتحوّلت إلى ورطة في يد من نظّر ومن خطّط ومن نفّذ.

وعزل المقاومة عن المجتمع وتأجيج التناقضات القبلية والمذهبية والطائفية، كما حدث في العراق، لم يفلح مع شعب احتٌلّت أرضه تدريجيا منذ أكثر من قرن، وعرف كيف يحافظ على جذوره راسخة في قلب الدمار…

هذا كل ما في الأمر.