سعيد المرابط يكتب: “نلتقي في أغسطس”.. قُبلة ماركيز الأخيرة بعد الموت!
قراءة غابرييل غارسيا ماركيز مرة أخرى 10 سنوات من وفاته أمر صادم، لذيذ، مشوق ولا يخلو من متعة، فالصفحات الـ109 التي انتهت بنشر روايته “نلتقي في أغسطس” بعد وفاته، تولد مشاعر متناقضة. فالعمل ممهورٌ بشهادة اعتراف من أبناء الأديب اللاتيني الراحل، حيث يطلب؛ رودريغو وغونزالو غارسيا بارشا، العفو من الأب مقدمًا بعد “فعل الخيانة”، الأمر الذي يثير بعض السخط لأنهم خالفوا الإرادة الأدبية الأخيرة لوالدهم، وعدم نشر العمل، ورغم أنه قال لهم أيضًا “افعلوا ما تريدون”.
ولكن، عند عبور عتبات النص، والبدء في القراءة تصبح تلك حكاية، تبدأ في التمغط تحت سحر الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1982، حيث أن قصة آنا ماجدالينا باخ وجزيرتها تمسك بك من الجملة الأولى ولا تتركها حتى تصبح شريكًا، في حبكة روائية حول كيفية تشابك حب الأم وحب الزوجين والحب العرضي في حياة هذه المرأة إلى ما وراء حدود العواطف الجسدية والروحية.
ومن أول فقرة في النص حتى آخره، تظهر بصمة “غابو” في إتقان اللغة الحكائية، ليجعلها تبدو وكأنها مقطوعة موسيقية، ذات إيقاعٍ ولحنٍ مملوء بكثافة العبارات القصيرة والنقط المتتابعة… موازاة مع اقتراح موسيقى تصويرية مؤثرة وقائمة الكتب التي تقرأها آنا والتي تشكل هدية إضافية. إنه لم الشمل مع جوهر المؤلف: تركيب جملة وقواعد فريدة، متحررة من “المشد”، كما قال، حول البحث الأبدي عن الصفة الدقيقة التي تعطي حياة سامية للأسماء.
إنها ليست مواجهة مع رواية كلاسيكية عن أهمية “خريف البطريرك”، أو “مئة عام من العزلة”، أو “الحب في زمن الكوليرا”، بالترتيب الذي أحبه. لكنها رواية قصيرة ذات قيمة، وهي نتيجة تمرين بارع في تكثيف السرد الذي ذكّرني بـ”ليس للكولونيل من يكاتبه”.
لقد قرأت بعد الآراء لقراء يعتقدون أن العمل كان يجب أن يختفي، وأن هذه القضية لا يمكن مقارنتها، بما فعله المحرر ماكس برود، عندما قرر عدم إحراق كتب صديقه فرانز كافكا. ويؤكد غونزالو غارسيا بارشا في تصريحات صحفية على أن العمل تم التأمل فيه من طرف العائلة، التي أخذت في الاعتبار لنصائح أدبية طيلة ثماني سنوات على الأقل. ومن العوامل التي أخذت في الاعتبار للموافقة على النشر، كان من التأكيد على أن الرواية كاملة وبصيغة منقحة.
وفي النص، هناك تكرار واثنين من التناقضات التي لن أذكرها، حتى يتمكن القارئ من اكتشافها، لكننا بعد عقد من الغياب الأبدي، لعراب “الواقعية السحرية”؛ نشهد الآن الجزء الأخير من “كونشرتو” إبداع غارسيا ماركيز، رغم أنه لم يخضع لصرامته المعهودة في تصحيح النصوص، وربما هذا هو السبب وراء طلبه التخلص من المسودة.
وربما، كان “غابو” سيقول، كما قال سابقًا، في مؤلفه المستنير “عشت لأروي”، “إذا كنت تظن أنك قادر على العيش دون كتابة، فلا تكتب”، وها قد كتب “غابو”، روايته هذه، وها قد نشرت بعد أن عبر البرزخ بعقد من الزمن؛ صاحب “ذكرى عاهراتي الحزينات”، وها هو يقدم هديةً رائعةً غير متوقعة لعدد لا يحصى من قراء ماركيز، هدية سيلتقون معه في غشت من خلالها، ومن خلالها يقدم دليلًا آخر، لا يمكن دحضه؛ عن موهبته الفذة وتفانيه وحبه للأدب، وكأنها القبلة الأخيرة قبل الموت لشفاه الرواية.
تحكي الرواية، أنه في كل عام من شهر؛ أغسطس/ آب، -أو غشت عندنا نحن المغاربيون، ما دامت لم تصدر ترجمة عربية للعمل تعطيه إسمًا يحسم الأمر-؛ تستقل آنا ماجدالينا، العبارة إلى الجزيرة التي دُفنت فيها والدتها لزيارة القبر الذي ترقد فيه، وهكذا تصبح هذه الزيارات في نهاية المطاف بمثابة دعوة لا تقاوم حتى تصير آنا شخصًا مختلفًا لليلة واحدة في العام.
إن “غابو” من خلال قصة آنا ماجدالينا، يعكس لنا تلك الرغبة التي لدى المرأة مدى الحياة، لكنها، بسبب الظروف الثقافية للهيمنة الأبوية، لم تتمكن من التعبير عنها. فالنساء من خلال آنا؛ يفكرن، يشعرن، يرغبن ويحبن مثل الرجل تمامًا.
وهكذا فهو يحول بطلة روايته إلى امرأة من هذا العصر، امرأة تمر بمرحلة انتقالية من الثقافة المهيمنة التي يهيمن عليها الرجال، بين الحياة اليومية المسيجة، إلى الشعور فجأة بالتحرر واتباع الشغف.
ويعيد غارسيا ماركيز بدقة خلق حالة النسيان العاطفي التي تشكلت في روح تلك المرأة وضميرها؛ نتيجة لثقل الماضي الثقافي؛ حيث الذنب يلاحقها، يكشفها، يطغى عليها، تتغير، والحياة لم تعد كما كانت… حتى لو أرادت أن تحافظ على المظاهر مع زوجها.
الراوي هنا لا يحكم، لا يوجه القارىء، فقط يروي كيف أنها، على سبيل المثال، ممزقة “بين اللياقة والإغراء”… على الرغم من هذه التصدعات، فإن قوة رغبتها في الاستكشاف والعثور على نفسها، تظل أقوى.
الحب، الرغبة، العاطفة، الجنس، بالترتيب الذي تريده البطلة، وهي متوافقة مع ذاتها ويمكن أن تكون مرتبطة، ولكنها ليست حصرية، حيث أن رغبتها في شخص آخر؛ لا تعني أنها تحب زوجها بشكل أقل… إن “غابو” هنا لا يشرعن الخيانة، بل يفتح لنا سؤالاً يندرج في خانة “اللامفكر فيه”، سؤال يجب علينا طرحه، كيف هي علاقاتنا من الآخر، هل نحبهم بالشكل الصحيح أم أن هناك خطأ في هذه العلاقة؟.
ورغم ما رافقها من نقاشٍ أدبي، إلا أن الرواية كُتبت بأسلوب غارسيا ماركيز المذهل والرائع، وهي ترنيمة للحياة، للمقاومة، الرغبة والمتعة رغم مرور الوقت.
الآن سيتمكن القراء من الجلوس مع “غابو” في أغسطس على رصيفٍ من الكتابة الإبداعية الروائية كما عودهم، كما فعل عدة مرات، من أجل عيش حكاياه المنبثقة من البساطة المحيطة به في أمريكا اللاتينية، والمسافرة أبجديًا عبر العالم، والعابرة للغات، نكاية الموت وفي الغياب.
وسنفعل ذلك، من أجل مواصلة التعلم منه في القرن الحادي والعشرين، ليس لأننا نعيش لكي نروي، أو نروي كما لو كنا نعيش في زمن ازدهار أمريكا اللاتينية والواقعية السحرية، ولكن لأنه ترك لنا درسا أخيرا في الانضباط للمضي قدما؛ درسٌ مفاده أنه إذا كان المرء يحب الكتابة، عليه أن يدرك أن الكتابة هي “وظيفة كل يوم وكل ساعة”، حتى تتسلق حشرجة اليوم الأخير حلق المرء.