رصاص يائس في أفق مستقر: قراءة في الهجوم على مدينة السمارة

استفاقت مدينة السمارة، الجمعة 27 يونيو 2025، على دوي أربعة مقذوفات سقطت في أطرافها الغربية، بعضها قرب مقر بعثة الأمم المتحدة “المينورسو”. لم تسجل الحادثة أي خسائر بشرية أو مادية، لكنها أرخت بثقلها الرمزي على المشهد السياسي والأمني، وأعادت إلى الواجهة سؤالًا ملحًا: ما حدود اليأس حين يتحول إلى مقذوف؟
جبهة البوليساريو سارعت إلى تبنّي الهجوم، واعتبرته عملية “عسكرية نوعية” ضد ما وصفته بـ”أهداف مغربية في الإقليم”، في لغة تنضح بحنين قديم إلى المواجهة، لكنها تصطدم بواقع مغاير: واقع التحول العميق في موازين القوة والسيادة في الصحراء، لفائدة المغرب.
القراءة البسيطة ترى في ما وقع مجرد قصف معزول في مدينة حدودية، لكن القراءة السياسية تقرأه كـ ردة فعل انفعالية على مسار طويل من التراكمات الإيجابية التي راكمها المغرب في ملف الصحراء المغربية، ومنها: توالي سحب الاعترافات بجبهة البوليساريو من عدد كبير من الدول، بما في ذلك دول إفريقية ولاتينية وآسيوية، حتى لم يعد عدد المعترفين بالجبهة يتجاوز 25 دولة، أغلبها هامشية أو تحت تأثير نفوذ الجزائر.
كما تم افتتاح أكثر من 30 قنصلية عامة في مدينتي الداخلة والعيون، من دول تمثل مناطق استراتيجية: الخليج، غرب إفريقيا، الكاريبي، الأمر الذي يحمل اعترافًا فعليًا بالسيادة المغربية.
إلى جانب ذلك، تزايد الدعم الدولي للمقترح المغربي للحكم الذاتي، أبرزها: دعم الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2020، في قرار لا يزال ساريًا؛ دعم صريح من إسبانيا (مارس 2022) بعد تغيير جذري في موقفها؛ ومواقف أوروبية متصاعدة تنظر إلى الحكم الذاتي باعتباره الحل “الأكثر جدية ومصداقية وواقعية”.
وعلى المستوى الداخلي، تم تثبيت البُعد التنموي في الأقاليم الجنوبية، عبر مشاريع ضخمة منها الطريق السريع تزنيت-الداخلة على امتداد 1055 كلم، وميناء الداخلة الأطلسي، واستثمارات متقدمة في الطاقات المتجددة، فضلًا عن توسع الأنشطة الاقتصادية في مجالات متعددة.
في ظل هذه الدينامية المغربية المتقدمة، تجد جبهة البوليساريو نفسها أمام تناقص الدعم الخارجي، وتآكل التأييد الشعبي في مخيمات تندوف، وانكماش الحضور الدبلوماسي. وعوض أن تجدد خطابها وتطرح بديلا سياسيًا، اختارت العودة إلى الأدوات العسكرية المنهكة. لكن، هل تملك الجبهة اليوم فعلًا القدرة على تغيير المعادلات؟ الجواب، ميدانيًا، لا.
فالمغرب ومنذ تحركه الاستراتيجي في معبر الكركرات (نوفمبر 2020) أنهى عمليًا وهم “المناطق العازلة”، وأعاد الانتشار العسكري ليشمل كامل النطاق الدفاعي جنوب الجدار الأمني. كما طوّر من تقنيات الرصد والاستهداف الجوي (درونز، استطلاع حراري، طائرات غير مأهولة…)، وهو ما أفشل معظم محاولات التسلل أو القصف.
حتى الهجوم الأخير، ورغم أنه سُوّق بوصفه “عملاً نوعيًا”، إلا أنه لم يخترق أي منشأة حيوية أو عسكرية، ولم يخلّف أي ضحايا، بل تم رصده والتعامل معه ميدانيًا بسرعة، وهو ما أكدته زيارات بعثة المينورسو.
الإشكال لا يكمن في “ما وقع”، بل في “ما يمثله”. إن المقذوفات التي أُطلقت على السمارة تعبّر عن عجز تام عن إنتاج خطاب سياسي قابل للحياة. فحين يصبح “القصف” هو الأداة الوحيدة للتواصل، نكون أمام مشروع يحتضر، لا أمام مشروع يفاوض. المفارقة أن البوليساريو، التي تدّعي تمثيل “شعب”، لا تملك أي مؤسسات سياسية منتخبة، ولا اقتصادًا ذاتيًا، ولا مقومات دولة، ولا حتى وحدة جغرافية. وتراهن على معاناة ساكنة المخيمات في تندوف كورقة ضغط، دون أن تقدم لهم أفقًا سياسيًا واضحًا.
رغم التفوق السياسي والدبلوماسي، فإن المغرب لا ينظر إلى النزاع بعين المنتصر المطلق. بل ما زال يُرافع على الساحة الدولية، ويؤكد التزامه بالحل السياسي تحت إشراف الأمم المتحدة، مستندًا إلى مقترحه للحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية، معززًا ذلك بأرقام التنمية واستقرار المؤسسات في الأقاليم الجنوبية. وهذا بالضبط ما يربك الخصوم: أن المغرب يبني ويستثمر ويتقدم، فيما هم لا يملكون سوى قذائف تعبر السماء وتخنق المعنى.
رغم أن مدينة السمارة لم تُصب بأذى من المقذوفات، إلا أن صداها لم يكن بلا أثر. المدينة، بتاريخها الصوفي، وإرثها الروحي المرتبط بالشيخ ماء العينين، لا تواجه العنف بالصخب، بل تقابله بهدوء مستمد من عمقها التاريخي. إن هذا الصمت، وإن بدا حكمة، يذكرنا بأن قوة المدينة تنبع من تاريخها ورمزيتها الثقافية، وهي دعوة مستمرة للحفاظ على هذا الإرث وصيانته.
السمارة، رغم استقرارها النسبي، تظل في حاجة دائمة إلى التطوير والتنمية التي تكرّس مكانتها الثقافية والاجتماعية، وتعزز حضورها في المشهد الوطني. فالهجوم، وإن كان مدانًا بكل المقاييس، يدفعنا إلى التأمل في أهمية مواصلة تعزيز هذه المدينة، لا فقط أمنيًا، بل بجعلها فضاءً حيويا يعكس تاريخها وهويتها.
إن المقذوفات التي حلّقت فوق السمارة كانت بلا أثر مادي، لكنها تطرح أسئلة ثقيلة على مسار جماعي يحتاج إلى يقظة مستمرة، حتى لا يكتفى برمزية المدينة، بل تتحول إلى قوة حقيقية تدفعها نحو مستقبل أفضل، في إطار النموذج المغربي الشامل للأقاليم الجنوبية.