رسائل الرياضة
نهاية الأسبوع الماضي كانت مناسبة لتعطينا مباريات كرة القدم بعضا من قيم الرياضة، ومن دروسها النبيلة التي تأسست عليها منذ القديم، وأيضا من قدرتها على تجاوز نوازع الإنسان المريضة نحو الحقد والكراهية والتعصب.
مواجهتان كرويتان فرقتهما الرقعة الجغرافية التي دارتا فيها، وأيضا الفوارق في المستوى التقني للأندية، ورمزية المبارتين وقيمتهما.. لكن جمعتهما القيم الأصيلة للرياضة، ومشاهد الروح الرياضية عند نهايتهما، ومشاهد تبادل العناق مع المنافس بغض النظر عن النتيجة المسجلة، ومن المنتصر والمنهزم.. لقد كان المنتصر الوحيد فيهما هي السلوكات النبيلة التي أعقبت صافرة النهاية، رغم ما أحاط بهما من حساسية ومن ظروف متوثرة.
المباراة الأولى لعب فيها ريال مدريد ضد غريمه التاريخي برشلونة نهاية كأس الملك بمدينة إشبيلية عاصمة الجنوب الإسباني، سبقتها عاصفة من الجدل حول التحكيم بين إدارة النادي الملكي والأجهزة الكروية في البلاد، وتراشَق أنصار الفريقين على مواقع التواصل الإجتماعي، وسط متابعة إعلامية عالمية عادة ما ترخي بضغطها الرهيب على لاعبي الفريقين أثناء المواجهة التي عرفت ندية وإثارة ومستوى كرويا ممتعا، واستمرت إلى الشوطين الإضافيين وحسمها الفريق الكطلاني في الأخير لصالحه.
الجميل أنه بعد نهاية المباراة تعانق لاعبو الفريقين الغريمين وإطارهما التقني، واصطف لاعبو البارصا للتصفيق على لاعبي منافسهم ريال مدريد أثناء صعودهم إلى المنصة الشرفية لتسلم الميداليات من يد العاهل الإسباني فيليبي السادس، في رسالة واضحة إلى كل الانصار المتعصبين الذي جعلوا من الريال والبارصا قضية أساسية في حياتهم، وتفرغوا من كل شيء لصالح سب وشتم المعسكر الآخر و”المعاطية” وبث خطابات الحقد والكراهية حول لعبة من المفروض أن تكون مشاهدتها مصدرا للمتعة والترويح عن النفس، وليس الإقتتال وحرق الأعصاب وخلق العداوات المجانية.
المباراة الثانية جمعت ناديي شباب قسنطينة الجزائري بنظيره نهضة بركان المغربي برسم إياب كأس الإتحاد الإفريقي بالجزائر.. فرغم الأجواء جد المتوثرة التي تعرفها العلاقات السياسية بين البلدين، وحربهما الباردة على أكثر من صعيد، ورغم خطابات الكراهية بين فئات من الشعبين، وما نجح فيه نظام العسكر من تأليب كثير من الجزائريين على جارهم الغربي.. فمباراة قسنطينة وبركان لم يكن فيها أي شيء يشير إلى كل هذا “الويل” الذي وصل إليه التراشق بين شعب واحد فرقته حدود استعمارية مقيتة، وحضرت فيها التنافس الكروي النظيف الذي صاحبته روح رياضية جميلة كانت استمرارا للإستقبال الحار الذي خصصه المغاربة للفريق الجزائري في مباراة الذهاب بالمغرب، والذي رد عليه الجزائريون بالمثل عندما حل نهضة بركان بالجزائر.
بين مبارتي الذهاب والإياب، ونهايتهما بتبادل العناق ومشاهد المودة بين اللاعبين، جاءت الرسائل من الرياضة ومن قيمها الفاضلة التي لا تعترف بأحقاد السياسة، ولا بألاعيب أنظمتها، ولا تترك حيزا لمشاعر الكراهية والحقد، وخلقت فجوة أمل واسعة في إمكانية نهاية هذه القطيعة المقيتة، بأن يهدي الله نظام الجنرالات إياهم أن يتوقفوا عن إذكاء مزيد من الحطب في نيران الأحقاد المستعرة.
الرياضة رغم أنها طالها الكثير من جشع المال والإستغلال وهيمنة الساسة وأصحاب المصالح المشبوهة، ومُسخت الكثير من جوانبها الإنسانية الجميلة، إلا انها لازالت تقاوم من اجل الإبقاء على قيمها النبيلة، وترفض التخلي عن رسائلها وقيمها الفاضلة، وما تزال لديها القدرة على “الخروج من الجنب” لكل الذين يريدون تحويلها إلى سلاح لبث الحقد والكراهية والمشاعر الخبيثة.