ذكرى صامتة لمجزرة فرنسية راح ضحيتها 6 آلاف مغربي
“آلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، يهود ومغاربة مزقوا إربا بواسطة قنابل الملينيت وبُقروا بالحراب، كان جيش المتطوعين الأجانب يخرج الناس من مخابئهم ويعدمهم بكل هدوء..”، هكذا وصف الملاحظ الإنجليزي “هويل” في كتابه “مغامراتي المغربية” ما رآه عقب القصف البحري لمدينة الدار البيضاء بداية غشت من عام 1907 من طرف الجيش الفرنسي.
مجزرة تمرُّ ذكراها هذه الأيام في صمت ودون تواصل رسمي يخلدها في ذاكرة المغاربة رغم أنها كانت ضربة البداية في إحكام المستعمر الفرنسي قبضته على المملكة وصولا إلى توقيع معاهد الحماية سنة 1912.
توافق هذه الأيام من شهر غشت الذكرى الـ 116 لمجزرة الدار البيضاء التي ارتكبتها فرنسا ضد الشعب المغربي
البيضاء تغرق في الدماء
في 5 غشت 1907، بدأت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال ليوطي حملة عسكرية شرسة ضد ساكنة الدار البيضاء التي تمكنت من منع جيوش ليوطي من اقتحامها لأشهر متلافية مصير وجدة التي سيطر عليها ليوطي بداية من مارس من ذاك العام.
التوغل الفرنسي الذي سينتهي بمجزرة مرعبة جاء بذريعة الرد على مقتل تسعة عمال أوروبيين بميناء المدينة في 30 يوليوز 1907، وهو الحادث الذي أعقبته انتفاضة البيضاويين الذين سيطروا على الدار البيضاء وطردوا ممثل فرنسا بها.
المجزرة الفرنسية في الدار البيضاء مثلت بوابة لدخول المستعمر لاحتلال المغرب سنة 1912
مقتل 6 آلاف مغربي في 3 أيام
الرد الفرنسي جاء قاسيا تعرضت فيه المدينة إلى قصف مكثف من ثلاث ماكينات حربية ضخمة. قصفت البارجة “غاليلي” شوارع المدينة بكثافة، قبل أن تساندها بارجة أخرى تحمل اسم “دي شايا” والتي أمطرت حي المناكير الشعبي بالقنابل، فيما كانت السفينة الحربية الإسبانية “ألفارو دي بازان” تقصف السكان من اتجاه آخر.
رافق عملية القصف البحري لمدينة الدار البيضاء والتي استمرت لثلاثة أيام دون انقطاع، إنزال بحري كبير، واجتاح 3 آلاف جندي فرنسي المدينة، مرتكبين أبشع المجازر بها.
وخلال ثلاثة أيام فقط، قتلت القوات الفرنسية خمس سكان المدينة، فسقط 6 آلاف مغربي ضحية (في عدد تقريبي لاختلاف المصادر) من أصل 30 ألف نسمة، وهو عدد سكان المدينة قبل الهجوم، كما دمرت جميع أحياء المدينة، ولم ينج سوى الحي الأوروبي الذي كان يضم مقار السفارات والقنصليات الأوروبية بالمدينة.
القبطان الفرنسي “كراسي” في كتابه “اختراق الشاوية: “الدار البيضاء منذ يوم 7 غشت 1906 لم تعد مسكونة إلا بالموتى”
رعب وجثث وإعدامات
صحيفة “لوبوتي جورنال” الفرنسية الصادرة يوم 28 غشت من العام 1907 كانت قد نشرت مقالا حول القصف الذي تعرضت له الدار البيضاء وصفت فيه بشكل يشبه الدقة حقيقة ما وقع، وجاء فيه الحديث عن بشاعة الجريمة وحالة الجثث المسجاة في الشوارع.
وقالت الصحيفة “كانت الجثث ملقاة على الأرض في كل مكان، وكانت تنبعث منها روائح كريهة. وقام الجنود الفرنسيون بنقلها إلى خارج الأسوار وتغطيتها بالجير. كل مغربي ضبط وبحوزته سلاح يقتل في الحين. أما السكان الذين نجوا من القصف فجاؤوا أمام جنودنا وهم يرتعشون. بعضهم اعتقادا منه أنه يظهر احترامه للعادات الأوربية، وضع قبعة من القش على رأسه، ولوح بيديه بمنديل أبيض كدليل على السلام. المدينة كلها هدمت تقريبا. وحده حي القنصليات والمنازل المحيطة بها بقيت صامدة”
كانت مجزرة الدار البيضاء بداية للحملات العسكرية الفرنسية في الفترة ما بين 1907 و1911، إلى غاية خضوع سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ وتوقيعه على عقد الحماية مع فرنسا يوم 30 مارس 1912 ليسقط المغرب تحت الاحتلال الفرنسي حتى سنة 1956.
جريمة بشعة بذكرى صامتة
ويتساءل باحثون في تاريخ المغرب عن سبب عدم تخليد الدولة المغربية جريمة بهذا الحجم رغم أنها موثقة في كتب التاريخ وسجلات المستعمر والأرشيف الوطني.
لماذا تتجاهل مدينة الدار البيضاء تخليد ذكرى الهجوم الإرهابي للجيش الفرنسي عليها في سنة 1907 ؟
مصطفى كرين، رئيس المرصد الوطني للعدالة الاجتماعية
جريمة الدار البيضاء التي نفذتها فرنسا آنذاك بالقنابل الحارقة والبوارج، يقول مصطفى كرين أن ذكراها تمر في ما يشبه التجاهل، متسائلا عن سبب توفر المغرب على مندوبية سامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير مع غياب أي متحف خاص بالفترة الاستعمارية.
ويضيف كرين في تدوينة له على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أن المرصد الذي يرأسه، وهو المرصد الوطني للعدالة الاجتماعية قد طالب منذ سنة 2013 بضرورة إحداث متحف للفترة الاستعمارية للمغرب، وبدأ بعض الإجراءات المتعلقة بالكشف عن الأرشيف الاستعماري، ومشى أولى خطواته في مسار العمل على توثيق تلك الجرائم في أفق الترافع بصددها لدى المحاكم والمؤسسات الدولية المعنية، في مبادرة ينوي إعطاءها دفعة جديدة اليوم.