دفاعا عن حُكام كرة القدم
في السابق، عندما كانت تنتهي مباريات كرة القدم، كان الجميع يفتح النقاش حول أطوارها وأداء الفريقين واللقطات الجميلة والأهداف التي فيها متعة للناظرين، وينتقدون أيضا ذوي الأداء السيء من اللاعبين والمدربين، ويتوقعون مستقبل طرفي المواجهة في ظل النتائج المحصل عليها، ويتطرقون إلى المُتعين القيام به من طرف المسيرين لتحسين النتائج أو الحفاظ عليها والمراهنة على الألقاب أو تفادي النزول .
كان آخر ما يتحدث عنه الجمهور أثناء وبعد المباريات هم ثلاثي التحكيم، وكان من الناذر أيضا أن يطغى الحديث عن قرارات الحكام، على ما شاهدوه من أمور تقنية وأداء قدمه الفريقان فوق أرضية الميدان، إلا في حالات الأخطاء التحكيمية “المعيقة” التي تؤثر في نتيجة المباراة، فينصب الحديث عن اللقطة المؤثرة التي أخطأ فيها الحكم، فيأخذ نصيبه من الإحتجاج والإنتقاد وبعض كلمات السب والشتم، وبعدها ينسى الأمر.
اليوم، وفي كل البطولات والكؤوس وحتى المباريات الودية، وفي كل العالم، أصبح من الناذر أن تسمع محبا ينتقد أداء فريقه قبل الحديث عن الحكم، ويبحث في الأعطاب التكتيكية التي ساهمت في هزيمة ناديه أو منتخبه بدل البحث ب”الفتيلة والقنديل” عن رِجلِ مدافع الخصم وهي تلمس حذاء مهاجم فريقه، أو عن يد لاعب الغريم وقد “قاست” في كتف أحد لاعبيه في لقطة خاطفة حتى الكاميرات التقطتها بصعوبة بالغة، و”تغاضى” عنها الحكم “المتحيز” و”المرتشي” والمعروف عنه أنه “من أنصار الفريق الفلاني”، أو أنه صديق لهذا الرئيس أو ذاك، وهلم جرا من هلوسات نظرية المؤامرة وإدمان البكاء.
هذا التوجه المرَضي للجمهور في كل بقاع العالم لإلصاق كل شيء بالتحكيم والحكام، أصبح يغذيه أيضا المسيرون والمدربون الفاشلون الذين أصبحوا “يسرحون” المحبين ويصرفون أنظارهم عن تدبيرهم الكارثي لأمور النادي والفريق بالحديث المستمر عن التحكيم عقب كل هزيمة، لذلك أصبحنا نشاهد الكثير من البهلوانيات الإحتجاجية على خط التماس يمارسها المدربون على الحكام، بدل التركيز على فريقهم والقيام ب”الكوتشينغ” الناجح الذي يمَكنُهم من الفوز أو تفادي الهزيمة بدون مساعدة من أحد.
الكثيرون أصبحوا يضيعون بطارية الكلام في “مشانقاتٍ” حول حالات تُعلن هنا، ولا تُعلن هناك، ويتم تفسير الأمر دائما بالتواطؤ والتحيز وموالاة نادٍ على نادٍ آخر، وكأننا أمام معادلة رياضية (من الرياضيات) واضحة ويقينية، يعتمد عليها حكم المباراة لاتخاذ القرار المناسب!!
هؤلاء يجهلون أو ينسون (أو يتناسون) أن قانون تحكيم كرة القدم يعطي للحكام هامشا كبيرا للسلطة التقديرية في الكثير من الحالات، يتخذ فيها الحكم قراره في ظرف لا يتعدى ثلاث ثواني بناءً على زاوية الرؤية واتجاه الكرة ونية اللاعب، وأيضا يدخل في السلطة التقديرية شخصية الحكم ومرجعيته الكروية التي نشأ فيها، وهذه الأشياء يختلف فيها حكم عن آخر، لكنهم يشتركون جميعا في قابليتهم لارتكاب الأخطاء في التقدير باعتبارهم بشرا وليسوا آلات مبرمجة تدير المباريات.
نعم، كرة القدم عبر تاريخها وإلى اليوم، وفي كل بقاع العالم، تجد فيها بعض الحالات للفساد التحكيمي، وتعليمات تعطى للحكم من أجل تغليب كفة فريق على آخر، أو مساعدة منتخب على الوصول إلى دور معين، لكنها تبقى حالات ناذرة وقليلة جدا، وليست بهذا الإستفحال الذي يصور به المشجعون المتطرفون الحكام والتحكيم، حيث عندهم أصبحوا جميعهم مرتشين ومتحيزين وينفذون التعليمات ويتآمرون على فريقهم، لدرجة أن الأمر تحول إلى تسعين دقيقة يبقى فيها الجمهور عينه “على القرص” في اتجاه الحكم لتسجيل هفوة تافهة أو لقطة غير واضحة لإقامة القيامة بعد المباراة واختزال مشكل فريقه في “ظلم التحكيم”.
بمثل هذه الضغوطات الرهيبة على الحكام، وهذه السلوكات الإحتجاجية التي أصبحنا نشاهدها، نحن نساهم بدون وعي في دق آخر مسمار في نعش رياضة كرة القدم كنشاط إنساني احتفالي للمتعة والترفيه عن النفس.