خلّوا بين المغاربة وملكهم

هناك من يفزع كلما رفع بعض المغاربة خطابا مباشرا إلى الملك، حتى حين يكون محترما، ومؤدّبا، ومعقولا.
هذا البعض ينصّب نفسه وصيا على الملك وعلى الشعب في آن واحد، كما لو أننا ما زلنا في زمن خصومة قديمة بين الملكية وجزء من الطيف السياسي.
والحال اليوم مختلف جذريا. هناك إجماع وطني شبه تام، عابر للأجيال والتيارات والفئات، حول الملكية سقفا ناظما لكل المشاريع والتصورات الإصلاحية.
البنية الذهنية التي ترفض مخاطبة الملك مباشرة لا تدافع عن الملكية بقدر ما تدافع عن طقوس عتيقة وعلاقة عمودية تُقزّم المواطن وتُحوّل رأس الدولة إلى رمز بعيد، بينما علّمتنا خبرتنا السياسية أن الملك، في خطاباته ومبادراته، في حوار دائم مع المجتمع، وأن الدولة حين تُحسِنُ الإصغاء تتقوّى، لا العكس.
ما وقع في أسبوعي احتجاج “جيل وليّ العهد” مثال واضح. شباب خاطبوا الملك مباشرة، بل صاغوا وثيقة مطلبية رصينة تحاجج بالدستور وتقارير الدولة نفسها، وتطالب بتفعيل جادّ لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والحقوق الاجتماعية المنصوص عليها صراحة في هذه الوثيقة التعاقدية، وتضع خريطة طريق واقعية لبناء دولة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وموازاة مع وثائق ورسائل شباب “جيل Z”، اختار طيف آخر من المواطنين، من بينهم سياسيون وحقوقيون وأكاديميون وإعلاميون، أن يوجّه، بدوره، رسالة مفتوحة إلى الملك، بصياغة رصينة واحترام كامل لقواعد اللياقة، يُعبّرون فيها عن تقديرهم لمكانة المؤسسة الملكية ويطلبون منها تدخّلا إصلاحيا عاجلا يفعّل مقتضيات الدستور ويعيد الانسجام إلى السياسات العمومية.
بهذه السجالات المتقاطعة، انتقل الحوار من الشارع إلى الفضاء العمومي المكتوب، وتحوّل من همس افتراضي إلى مراسلات موقعة، بما يعيد السياسة إلى واجهة النقاش ويحرّر علاقة المواطنين بملكهم من وصاية الحُجّاب القدامى.
لسنا أمام مزايدات في “الوقاحة” كما يظنّ البعض، بل أمام مواطَنة جنينية تتلمّس لغتها الدستورية وتعرف بوصلتها. أي مخاطبة مصدر التحكيم في الخيارات الكبرى باحترام ومسؤولية.
إن توجيه الخطاب إلى الملك، حين يُصاغ ببيان رزين ويستند إلى الدستور وتقارير رسمية وروح المصلحة العامة، ليس خروجا عن اللياقة ولا قفزا على المؤسسات، بل ممارسة حديثة لحق سياسي مشروع يربط بين الشرعية الشعبية والمرجعية التحكيمية للملكية.
هذه المواطَنة الجديدة لا تُشاكس الدولة ولا تُغالبها؛ بل تطلب منها أن تُصغي وتُصحّح، وتحوّل الشكوى الأخلاقية إلى مطالبة دستورية محدّدة.
هي مخاطبة تُنهي زمن الهمس والوساطات الرمادية، وتُخرج السياسة إلى العلن، وتُحرّر العلاقة بين الناس وملكهم من وصاية “حَرَس الأدب السلطاني”.
هكذا تُقوّى الملكية، لا بتكميم الأصوات. أي بفتح القنوات وتحويل النقاش إلى حوار مسؤول يضمن الاستقرار ويُسرّع الإصلاح، لا بتقديس الصمت.
وليس أدلّ على ذلك من شهادات متباينة المرجعيات اتفقت على تقدير هذا المسلك. وزير العدل السابق المصطفى الرميد رأى في الوثيقة الصادرة عن شباب “جيل Z” “مستوى راقيا من الوعي الإصلاحي والسمو في الأداء الأخلاقي”، واعتبر موازنتها بين إرادة الإصلاح واحترام المؤسسة الأساسية في البلاد مؤشرَ نضج جماعي.
والحقوقي اليساري خالد البكاري أوضح أن مخاطبة مجموعة من الشخصيات الملك مباشرة ليست وصاية على أحد، بل مخاطبة لـ”رئيس الدولة” في سياق فقدان واسع للثقة في الحكومة، وهو خيار سياسي مشروع ما دام يتم “بكل احترام، وبما يقتضيه واجب المرحلة من جرأة وصراحة”.
وبدورها الفاعلة المدنية الشابة هدى سحلي، ذكّرَت بتجربة مقارنة، أن السياق الاحتجاجي بطبيعته فضاء مفتوح تتعدد داخله الأرضيات والمبادرات، وأن هذا التعدد دليل حيوية لا سبب شيطنة.
المشكلة إذن ليست في أن يخاطب مواطنون ملكهم، بل في “الوسطاء” الذين احتكروا تاريخيا مفاتيح الوصول، وحوّلوا الوساطة من قيمة سياسية إلى ريع رمزي ومهني.
لقد رأينا بأعيننا كيف يُحرِّر الخطاب المباشر الطاقات، ويُسقط طبقات من الإشارات الملتبسة و”التقلاز من تحت الجلابة”، ويعيد ضبط العلاقة بين الدولة ومواطنيها على قاعدة حديثة: مسؤول منتخب أو مُعيَّن يخضع للمحاسبة المؤسسية، وملك يسمع نبض المجتمع ويُحكِّم الدستور، وشعب يَرفع مطالبه في ضوء نصوص مُلزمة ورؤية ملكية مُعلنة.
ثم إن التحفّظ على الرسائل الموجّهة للملك بحجة “اللباقة” يقفز على تطور عميق في ثقافتنا السياسية: الملك لم يعد في موقع يحتاج فيه إلى “حرّاس بوّابة” يصفّون ما يرد عليه من الكلام والرسائل.
الملكية اليوم مركزُ ثقة عامة، و”الحديث مع الملك” ليس خروجا عن المؤسسات، بل استخدام ذكي لبوصلتها. فالوثيقة الشبابية نفسها تُحيل إلى الدستور وخطب الملك وتقارير الدولة وتطالب بتنزيلها، لا بالقفز عليها.
الهيبة الحقيقية تُصان عبر احترام التعاقد الأسمى وإنفاذ فصوله، لا عبر إسكات الناس وتأديب ألسنتهم باسم توقير فارغ.
“جيل ولي العهد” لحظة تُجسّد أكثر من مجرّد تقارب عمري مع الأمير وولي العهد مولاي الحسن. إنّها إشارة إلى عبور جماعي نحو المستقبل. جيل رقميّ يحرّر الألسن ويحاور بلغته، ويُقيم حجّته بالبيان والأرقام، ويرفض العنف والوصاية، ويُعلن أخلاقا مدنية جديدة تُحرّر “المخزن” نفسه من عتاده الرمزي الثقيل، وتدفع “الدولة الجادّة” إلى واجهتها الإصلاحية.
كلّما تُرك المجال لهذا الحوار المباشر كي ينضج، تحسّنت السياسة وهدأت الأعصاب وتراجعت الحاجة إلى الأمن كوسيط اضطراري بين الدولة وشعبها، مع ما يخلّفه ذلك من احتكاكات لم يعد لها أي داع.
“خلّوا بين الناس وملكهم” ليست دعوة لإلغاء المؤسسات؛ بالعكس، هي دعوة لصونِها من تحوّل بعض النخب إلى حجاب سميك بين رأس الدولة والمجتمع.
من حقّ أي مغربي، فردا كان أو جماعة، أن يتحدّث إلى الملك، وأن يطلب تفعيل الدستور، وأن يذكّر بأولويات وصفها الملك نفسه مرارا بالجدية، ومحاربة الفساد، وتجويد الخدمات، وتضييق الهوة بين “مغربين” يسيران بسرعتين.
من واجب النخب العتيقة والحكومة والبرلمان والأحزاب أن يلتقطوا هذا النفَس المدنيّ الجديد، الذي حرّره وأطلقه جيل ولي العهد، وأن يحوّلوه إلى سياسات مُفصّلة وأجندات عمل ومواعيد مُعلنة ومحاسبة تُرى ولا تُروى.
لهذا أقول بهدوء: كُفّوا عن الفزع من كلمات مؤدّبة تُوجَّه إلى الملك. لا تُحوّلوا الحوار المدني إلى فزاعة جديدة. دعوا هذا الجيل يفتح قنواته النظيفة، ويتقدّم إلى مهمته الطبيعية. أي تحويل المطالب الدستورية إلى إنجازات محسوسة.
بذلك فقط نربحُ ملكية أقوى، ودولة أعدل، ومجتمعا أقل وسطاء وانتهازيين و”مسامر الميدة”.