خرفان أخنوش

تابعت اللقاء الخاص الذي أجراه رئيس الحكومة عزيز أخنوش ليلة أمس مع القناتين التلفزيونيتين الأولى والثانية، وعدت هذا الصباح إلى بعض المقاطع لمشاهدتها أكثر من مرة، واستخراج معطياتها، وخرجت بخلاصات حاولت فيها ما أمكنني التخلص من الأفكار المسبقة والانطباعات الشخصية، وكانت النتيجة كالتالي:
لابد من الوقوف أولا عند الجزء المملوء من الكأس. فالعدمية ليست نهجا في النقد والتحليل، ولا نجني من إعمالها فائدة تذكر. وأول ما ينبغي تسجيله هو مبادرة إجراء اللقاء نفسه.
نعم، لسنا أمام “فرجة” سياسية تلفزيونية، ولا نحن استمتعنا بالصورة ولا بالمبارزة التي يفترض أن تدور بين المسؤول الأول عن الحكومة والصحافة؛ لكن عودة رئيس الحكومة إلى شاشة التلفزيون العمومي، بدل الخرجات المخدومة على المقاس مع منابر ذات خط تحريري مؤيد، هو مكسب في حدّ ذاته.
كان بإمكان كل من الحكومة والتلفزيون العمومي، وهما بقوة الأمر الواقع جهتان منفصلتان بالرغم من قانون الاتصال السمعي البصري ونظام دفاتر التحملات، وتكفي العودة إلى ما قاله لي وزير الاتصال في حكومة التناوب الثانية، محمد الأشعري، عن علاقة الحكومة بالقطب العمومي للتأكد من ذلك؛ (أقول كان بالإمكان) تقديم منتوج تلفزيوني أجمل وأكثر جاذبية، فقط لو أن رئيس الحكومة المغربية يقطع مع تقليد “استدعاء” الصحافيين، إما إلى مقرّ إقامته الرسمية أو مكتبه الحكومي، ويتفضل بالجلوس تحت أضواء واحد من الاستديوهات الضخمة التي تتوفر عليها القناتان، لأعفينا أنفسنا من ديكور “بيت الجلاس” الذي يحيط بمقابلات رؤساء الحكومات المغربية المتعاقبة.
وما دمنا في سياق الحديث عن الجزء المملوء من الكأس، دعوني أقولها بكل شجاعة أدبية ونزاهة، أن الزميل جامع كلحسن، عن القناة الثانية، كان في المستوى، مع مراعاة بعض القيود والمحاذير التي يفرضها السياق المغربي والوضع المؤسساتي بطبيعة الحال.
لكنني أصر على أنه من المجحف في حق كلحسن، جعله ضمن انطباع عام لا شكّ لدي أنه سلبي عموما، بفعل الرتابة وضعف القدرات التواصلية وغياب الكاريزما السياسية لدى أخنوش، والدليل موجود في الشبكات الاجتماعية لهذا الصباح.
وقبل أن ننتقل إلى تسجيل بعض الملاحظات النقدية حول مضمون المقابلة، دعوني أقولها أيضا، بكل الشجاعة الأدبية والموضوعية الممكنين، أن حصيلة حكومة عزيز أخنوش، الموسومة بكثير من البقع السوداء والفضائح، ليست خالية من الإنجازات.
وإذا كنا كمواطنين لا نملك القدرة على تلقي المعطيات الخاصة بالمؤشرات الماكرو اقتصادية، والتي شكّلت لحظة استثنائية في المقابلة، استعان فيها أخنوش بأوراق مكتوبة لأول مرة؛ إلا أن من غير الممكن إنكار أن الرجل “خرّج راسو” من هذه الناحية.
نعم، تلك الأرقام والمؤشرات لا تقنعنا لأننا لا نلمس مفعولها في جيوبنا وحياتنا اليومية، لكن منطق التقييم السياسية والمؤسساتي يفرض الاعتراف بأن الحكومة الحالية استطاعت، وهذا مفاجئ في نظري لكنه واقع اليوم، التحكم في التوازنات المالية الكبرى، وخفض التضخم، وتمويل البرامج الاجتماعية الكبرى وتحمّل نسبي لأعباء استثنائية مثل كلفة جزء من تبعات زلزال الأطلس الكبير ومشاريع احتضان تظاهرات كرة القدم…
ولو أن هناك لغز محيّر في عمل هذه الحكومة، يتمثّل في مضاعفتها للمداخيل الضريبية، وتحصيلها قرابة مائتي مليار درهم إضافية، دون أن تقدّم لنا أي شرح أو تفسير لهذا الأمر. لكن عموما هذا أمر يحسب لها.
ننتقل الان إلى الجزء الفارغ من كأس اللقاء الخاص. ولن أعود إلى الجانب الشكلي الذي يعتبر حاسما في مثل هذا النوع من التواصل، لكنه تحصيل حاصل، ولنسجّل الملاحظات التالية حول مضمون تصريحات أخنوش:
أولا، هناك مغالطة منطقية خطيرة وكبيرة اعتدنا سماعها ونكاد نطبّع معها، تتمثّل في زعم رئيس الحكومة أن تحالفه يتمتّع بشرعية انتخابية وأن ملايين المواطنين منحوه أصواتهم. والمغالطة هنا، كي لا أقول الكذبة الكبيرة، هي أن المغاربة الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع يوم 8 شتنبر 2021، وأدلوا بأصواتهم، لم يكن لهم أدنى علم أو معرفة أو حتى تلميح، إلى وجود تحالف ثلاثي بين أحزاب التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال. هذا أمر أساسي ومهم وليس ثانويا. فلو أن هذا الثلاثي كان ضمن تحالف حكومي سابق مثلا، لجاز لنا القول إن التصويت يعتبر تقييما لأدائه وتجديدا للثقة فيه. والحال أن الحزبين الأساسيين والكبيرين ضمن هذا التحالف، دخلا انتخابات 2021 وهما يشهران السيوف في وجه بعضهما البعض، ورغم أنهما ينحدران من رحم الدولة ويرضعان من ثدييها، إلا أن الانتخابات جرت في ظل تنافسهما وتناقضهما، وبعد تصريح الأمين العام السابق لحزب ال”بام” بعدم استعداده للدخول في حكومة يقودها أخنوش. وبالتالي من غير الجائز سياسيا وأخلاقيا ادعاء حيازة التحالف القائم بين الحزبين على ثقة الناخبين. بل إن تحالفهما بعد الانتخابات هو من عوامل قتل ما تبقى من ثقة في السياسة والانتخابات. وبالتالي على السيد أخنوش أن “ينقص فيخرات” في هذا الجانب.
ثانيا، ملف إصلاح أنظمة التقاعد المهددة بالإفلاس هو عنوان كبير وعريض للفشل ضمن حصيلة هذه الحكومة. حديث عزيز أخنوش في هذا الموضوع يخلو من الحد الأدنى للمسؤولية السياسية، حيث يلقي بالكرة في ملعب النقابات كما لو أن هذه الأخيرة هي التي تمثل الدولة وهي التي ستكون مطالبة بتسديد معاشات المنخرطين بعد نفاذ الاحتياطيات المالية. والخطوة التي برّر بها أخنوش تأجيل هذا الورش الإصلاحي هي من باب العذر الأقبح من الزلة، حيث قال إن خطر الإفلاس تأجل من 2028 إلى 2031، ولماذا؟ لأن هناك زيادات في الأجور صُرفت لفئات كثيرة من الموظفين، والتي حققت ارتفاعا في المساهمات الموجهة للصندوق المغربي للتقاعد. أي أن السيد رئيس الحكومة اشترى الوقت من جيوبنا، ولم يصرف الزيادات في الأجور لاعتبارات اجتماعية واقتصادية، بل ليخلّص نفسه من عناء تفكيك لغم تتقاذفه الحكومات المغربية منذ عقود. خلاصة هذا الموضوع أن أخنوش يفتقد ل”الفحولة” السياسية اللازمة لمثل هذه الإصلاحات.
ثالثا، في موضوع فضيحة محطة تحلية مياه البحر في مدينة الدار البيضاء، والتي فاز بها تكتّل يضم شركة يملكها رئيس الحكومة نفسه. خطاب هذا الأخير لم يختلف عما اقترفه قبل شهور داخل البرلمان، وحافظ على نهجه المتمثل في الهروب إلى الأمام، ومهاجمة المعارضة، ممثلة في حزب العدالة والتنمية، على اعتبارها مسؤولة عن عدم إنجاز هذه المحطة عندما كانت في الحكومة. أخنوش يفترض أن كل من ينتقدونه في هذا الموضوع ينتمون إلى حزب المصباح، وهذا عمى ألوان سياسية لأنه غير صحيح. وقسم كبير من الطيفين السياسي والحقوقي استنكروا هذه الفضيحة، واعتبروها تضاربا صارخا للمصالح. بينما لم يجد أخنوش ما يدفه به أمس سوى أن “هادو ناس يستثمرون في بلادهم”. والمشكلة أن “الناس” هنا هم رئيس الحكومة نفسه. وبمنطقه الحجاجي نفسه، يحق لنا أن نسأله: لماذا لم يقم هؤلاء “الناس” بالاستثمار قبل أن يصبحوا على رأس الحكومة؟
رابعا، حاول عزيز أخنوش امتصاص صفعة تحييده عن مهمة الإشراف السياسي على تنظيم الانتخابات المقبلة. وقال إنه مرتاح لذلك لأنه يعبّر عن ضمان الحياد طيلة مسار تنظيم الانتخابات. واستشهد أخنوش بما وقع قبل نهاية الولاية السابقة، وكيف ترأس سلفه سعد الدين العثماني اجتماعا واحدا للجنة الإشراف على تنظيم الانتخابات قبل أن يسلّم الملف لوزارة الداخلية. لا يجهل أخنوش أهمية الإشارات في عالم السياسة، وهو يعلم بكل تأكيد أن تحييده عن مهمة الإشراف السياسي على الانتخابات، لا يخرج عن أحد تفسيرين كلاهما سلبي بالنسبة إليه: الأول هو عدم الثقة فيه والخوف على نزاهة الانتخابات من تدخلاته، وثانيهما تأمين ظهره وترك المجال مفتوحا أمامه للتأثير في مصير الانتخابات المقبلة دون تمكين خصومه السياسيين من حجة للطعن فيها.
خامسا وأخيرا، لأنني لا أريد أن يختلّ التوازن بين الجزئين الفارغ والمملوء كثيرا، فإن أغرب ما سمعته في مقابلة أمس هو جواب رئيس الحكومة على سؤال الزميل جامع كلسن بخصوص التضارب الفاقع في الأرقام المتعلّقة بعدد رؤوس الأغنام. شرح زميلنا “بالخشيبات” كيف أن تصريحات وزير الفلاحة أحمد البواري، قبيل عيد الأضحى الماضي، قالت بتراجع عدد رؤوس الأغنام من 27 مليونا الى 17 مليونا تقريبا. وأن الأرقام الحكومية الأخيرة تتحدّث عن أكثر من 33 مليونا، ولا يمكن بأي من قوانين الطبيعة أو الاقتصاد تصوّر زيادة عدد رؤوس الأغنام بنحو 16 مليونا خلال ستة أشهر. السؤال وضع أخنوش في ورطة حقيقية، أجاب عنها بورطة أكبر، عندما قال إن قرابة سبعة ملايين رأس جديدة وُلدت خلال هذه الفترة، داعيا كأي تلميذ كسول في الرياضيات إلى احتساب سبعة ملايين أخرى التي لم تذبح في العيد. أي أنهم خرفان موجودة أصلا وعلينا احتسابها مرتين. بل زاد أخنوش (حتى يستكمل 16 مليونا) أن الخرفان التي لم تذبح توالدت بدورها، كأن ما يذبحه المغاربة في العيد وفقا لتعاليم الدين ليس الخرفان الذكور، والتي لا تلد حسب علمي.
وعندما نعلم أن مدة حمل النعجة لا تقل عن خمسة أشهر، وأن خرفان المغرب لم تعلف خلال الشهور الأخيرة حبوب الفياغرا، حتى تتوالد بهذه الوتيرة، وأننا رغم عدم أداء شعيرة عيد الأضحى استهلكنا ما تيسّر من لحوم “الغنمي” و”الدوارة” التي لا يمكن استيرادها أو زراعتها، فإننا نظل أمام كذب رسمي في الأرقام المتعلّقة بقطيع الأغنام، إما عندما كنا نسمع أن “القطيع بخير” طيلة السنوات الماضية، أي عندما كان أخنوش وزيرا للفلاحة، أو عندما أعلن وزير الفلاحة الحالي تراجع القطيع بنسبة 38 في المئة، أو اليوم عندما أعلنت أرقام تنطوي على ارتفاع كبير.
المهم أن هناك معجزة خرفان تحقّقت على يد هذه الحكومة.. فهنيئا لخرفان أخنوش.