story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“خدم يا صغري لغيري”

ص ص

صباح هذا اليوم، 02 ماي 2024، تكون مرحلة حاسمة في ملف أنظمة التقاعد قد انطلقت. فجميع أسباب التأجيل والانتظار باتت خلف ظهورنا، وآخرها كان إقرار زيادات في أجور بعض الفئات، في محاولة لـ”تقوية” النقابات، بتعبير رئيس الحكومة عزيز أخنوش نفسه خلال جلسته الأخيرة في البرلمان، وحملها على مساعدة الدولة في تمرير إصلاح تأخر كثيرا.
لا يمكن الاختلاف حول ضرورة القيام بإصلاح يعيد التوازن إلى أنظمة المعاشات بمختلف أنواعها، لأن الأمر يتعلّق، في أحد جوانبه، بعجز تلقائي سبّبه التحوّل الديمغرافي وتحسن أمد الحياة… لكن المشكلة كلها تكمن في هذا الإطار السياسي والاجتماعي الذي سيحيط بعملية الإصلاح، والذي يمكن وصفه بالسياق الصعب والمثير للكثير من المخاوف والهواجس.
محطة الإصلاح الحتمي لوضعية جزء من منظومة الحماية الاجتماعية، تصل في وقت يعيش فيه الفاعل السياسي أسوأ الحقب على الإطلاق، منذ الاستقلال، من خلال تراجع تمثيليته داخل المجتمع، وانكسار قدرته على الصمود والمقاومة أمام السلطة وحلفائها، والعجز عن إطلاق أو تنشيط ديناميات سياسية واجتماعية إيجابية ومنتجة، سواء بالاقتراح أو الاحتجاج.
الأمر نفسه ينطبق على الفاعل النقابي، والذي كشفت إضرابات أساتذة وموظفي التعليم فقدانه شبه التام لقدرته على التأطير والمواكبة والتفاوض. فغالبية الموظفين والأجراء في المغرب لا انتماء نقابي لهم، والهيئات المشاركة في الحوار ذات تمثيلية محدودة، وبالتالي لا يمكن الاقتصار عليها في طرح ومناقشة وتفسير الإصلاح، وفضاءات التداول العمومي والنقاش حول القضايا المجتمعية باتت شبه منعدمة، بما في ذلك الإعلام والمجتنمع المدني… كل هذا في ظرفية اقتصادية واجتماعية تتسم بشعور عام بالغضب تجاه ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية…
بلغة الأرقام، تتحدث المعطيات الرسمية عن قرابة 4 ملايين ونصف مليون مساهم نشيط في صناديق التقاعد، مقابل حوالي مليون ونصف مليون مستفيد من المعاشات. وضع ينتج عجزا عاما يناهز خمسة ملايير درهم، حيث تجني مختلف الصناديق الموجودة حاليا أقل من 63 مليار درهم من المساهمات والاشتراكات، مقابل إنفاقها حوالي 68 مليار درهم.
ولتجنب انهيار نظام المعاشات، تقترح الحكومة إصلاحات مقياسية تتمثل في مراجعة كل من سن الإحالة على المعاش، وقيمة مساهمة الأجراء، وطريقة احتساب المعاشات.
مقترحات تبدو منطقية ومقبولة من الناحية النظرية (في معزل عن السياق والخصوصيات المغربية)، خاصة منها سن الإحالة على المعاش، والذي ينبغي ان يلائم أمد الحياة الذي تحسن في المغرب خلال العقود الماضية ليقترب من الثمانين سنة.
لكن، وداخل هذه الصورة العامة، توجد تفاوتات كبيرة، حيث يسجل نظام المعاشات المدنية أكثر الأوضاع خطورة، بتوجهه نحو استنفاذ احتياطياته قبل سنة 2028، في مقابل نظام أجراء القطاع الخاص الذي يرجح أن يبدأ في استعمال احتياطياته عام 2024، مع استدامة مضمونة إلى غاية 2040 في حال عدم القيام بأي إصلاح في الوقت الحاضر.
هذا الاختلاف الواضح في وضعية كل من المعاشات الخاصة بالقطاع العام وتلك الموجودة في القطاع الخاص، وإن كان الخطاب الرسمي للحكومة والفاعلين المؤسساتيين يستعمله لتبرير الحاجة الملحة إلى إصلاح شامل، إلا أنه يخفي في الحقيقة مكمن الازمة الحقيقي، والذي هو حكامة تدبير المعاشات المتعلقة بموظفي القطاع العام، وطريقة اسثمار احتياطيات صناديق التقاعد بشكل عام.
سيؤدي الشروع في إصلاح شامل بغية إنقاذ منظومة المعاشات، إلى القفز على النقاش الضروري حول صناديق معاشات موظفي الدولة، على اعتبار أن ما آلت إليه وضعيتها المأزومة، هو نتيجة لتدبير وسياسات عمومية قامت بها الحكومات المتعاقبة، وبالتالي ينبغي أولا إعمال منطق المساءلة والشفافية ومعرفة الأسباب التي أدت إلى وصول النظام الخاص بالمعاشات المدنية إلى حافة الإفلاس.
أي أن الدولة باعتبارها مشغّلا، مطالبة بحل مشكلتها الخاصة في معزل عن مشكلة أنظمة تقاعد أجراء القطاع الخاص، وإن كانت هذه الأخيرة بدورها تحتاج إلى إصلاح مقياسي يضمن ديمومتها وتوازنها المالي.
لابد لنا في هذه اللحظة الحرجة من استحضار الاختيارات التدبيرية للدولة في فترات سابقة، مثل مبادرة المغادرة الطوعية التي انطلقت قبل أكثر من عشرين عاما، تؤدي إلى إفقار أنظمة التقاعد بحرمانها من مساهمات آلاف الموظفين وتحميلها في المقابل عبئ معاشاتهم المبكرة.
علينا أن نتساءل لماذا تسجل صناديق تقاعد الموظفين العموميين كل هذا العجز، بينما يقدم الموظفون أكبر نسبة مساهمة في المعاشات مقارنة بباقي الأجراء، ويعملون أطول مدة (حتى سن 63 سنة)، ورغم ذلك يوجد صندوق تقاعدهم في وضعية إفلاس؟
ثم ألا يستحق نظام معاشات العسكريين حدا أدنى من الشفافية والمكاشفة؟ وإذا كانت المصلحة الوطنية العليا تقتضي تحمّل أعباء مالية استثنائية في هذا المجال، فليس هناك ما يمنع تحملها مباشرة من طرف الميزانية العامة للدولة بدل تحميل عبئها لصناديق التقاعد المفروض فيها تدبير مساهمات المنخرطين.
ثم لماذا يتم حصر النقاش في الإجراءات التي تحمّل المواطن المغربي (الموظف والأجير والمتقاعد) كلفة الإصلاح؟ ماذا عن طريقة توظيف واستثمار احتياطيات صناديق المعاشات؟ هل يتم تدبيرها بعقلانية في مجالات منتجة على المدى البعيد؟ هل تحقق هذه الاحتياطات المردودية التي ينبغي لها تحقيقها؟
ألا يعتبر التوظيف الأمثل لاحتياطيات صناديق التقاعد هو الاستثمارات المنتجة لفرص الشغل، وبالتالي الجمع بين مردودية مالية لتلك الاحتياطيات، وتحقيق مصادر جديدة لتغذية صناديق التقاعد بالمساهمات والاشتراكات؟
يفترض في أنظمة التقاعد أن تعبّر في السياق المغربي عن فكرة “خدم يا صغري لكبري”، وهو ما ينبغي تكثيف الجهود لتحقيقه، كي لا تنحرف بنا هذه العبارة إلى منطق “خدم يا صغري لغيري”، حين تتحول احتياطيات صناديق التقاعد إلى مال سائب يوجّه نحو خدمة منظومة الريع والاغتناء السريع.