خبراء يقاربون واقع الصحافة في المغرب بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية

يرى عدد من الخبراء أن العمل الصحافي في المغرب يواجه اليوم رهانًا مركّبًا يتمثل في إيجاد توازن دقيق بين حرية التعبير والالتزام المهني، معتبرين أن التحولات التكنولوجية، وتزايد الإشكالات المرتبطة بالأخبار الزائفة، تفرض تطوير مقاربات قانونية وأخلاقية تستجيب للتحديات الراهنة.
وجاء ذلك خلال ندوة نظمَتها رئاسة النيابة العامة، الأربعاء 23 أبريل 2025، بالمعرض الدول للنشر والكتاب بالرباط، حول موضوع “العمل الصحافي بين الحرية والالتزام”، بمشاركة نخبة من القضاة والأكاديميين والخبراء في الإعلام والقانون، والذين توقفوا عند الأبعاد المختلفة المؤطرة للممارسة الصحافية، ما بين الإطار القانوني والتنظيمي والأخلاقي.
وفي هذا السياق، أكد نائب وكيل الملك لدى محكمة الاستئناف بسطات، عبد العزيز البعلي، على الخصوصية المزدوجة للعمل الصحافي والجرائم المرتبطة به، مشيرًا إلى أن التعامل القضائي مع هذا المجال يتطلب فهمًا معمقًا لبُعدين رئيسيين، هما البعد الإجرائي الذي يُعدّ بُعدًا حمائيًا، والبعد الموضوعي المرتبط بطبيعة الجريمة الصحافية التي تتميّز بطابع معنوي ورمزي، بخلاف الجرائم الأخرى ذات الطابع المادي.
وأوضح البعلي في مداخلته، أن اجتهادات القضاء المغربي، سواء على مستوى قضاة الموضوع أو قضاة محكمة النقض، تُظهر استيعابًا جيدًا للصرامة الإجرائية التي نصّ عليها المشرّع، إلى جانب تأويل حقوقي متقدّم للنصوص القانونية المنظمة لجرائم الصحافة والنشر.
وأشار إلى أن هذا التوجّه القضائي المغربي “ينسجم مع المعايير الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فضلًا عن اجتهادات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة ذات الصلة”.
وشدّد على أن النقاش في هذا الموضوع يبقى مفتوحًا ومعقّدًا بطبيعته، بالنظر إلى الاختلافات الفكرية والمعرفية والإيديولوجية التي تحيط به، كما أن الزوايا المتعددة التي يُقارب منها الموضوع تجعل من الصعب الحسم فيه بشكل نهائي.
وتابع أن تحقيق التوازن بين حرية الصحافة والمسؤولية المهنية يظلّ أحد الرهانات الأساسية في هذا المجال، داعيًا إلى مواصلة الحوار المفتوح والمقاربات المتعددة لضمان ممارسة إعلامية تحترم الحقوق والحريات في إطار القانون.
ومن جانبه، توقف أستاذ التعليم العالي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، عبد الوهاب الرامي، عند أهمية التعامل الدقيق والشامل مع موضوع أخلاقيات الصحافة، بالنظر إلى تعدد المتدخلين في تنظيمها، سواء من خلال التنظيم القانوني أو آليات التنظيم الذاتي.
وشدّد الرامي على أن منظومة أخلاقيات المهنة تستند إلى مرجعيات دولية أساسية، وتنخرط فيها جهات متعددة، من بينها المجتمع المدني، وجمعيات جمهور وسائل الإعلام التي أشار إلى غيابها في السياق المغربي، إضافة إلى وسطاء المؤسسات الإعلامية، والهيئات التنظيمية الوطنية، وعلى رأسها المجلس الوطني للصحافة.
ولفت إلى أن ضبط أخلاقيات الصحافة لا يمكن أن يتم وفق مقاربة صارمة وثابتة، بسبب تفاوت درجات الالتزام الأخلاقي بين وسائل الإعلام، “إذ يوجد التزام ضعيف، وآخر قوي، إلى جانب نماذج لصحافة تطرح حلولًا واقتراحات ذات طابع بنّاء، ما يجعل من الالتزام الأخلاقي مفهومًا ديناميكيًا يخضع لتحولات الممارسة”.
وشدد المتحدث، في هذا الباب، على التحديات التي تفرضها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على العمل الصحافي، خاصة فيما يتعلق بإشكالات الملكية الفكرية للمواد المنتَجة، وكيفية تعامل القضاء وهيئات التنظيم الذاتي، كالمجلس الوطني للصحافة، مع المضامين الإعلامية الناتجة عن توظيف هذه التقنية الحديثة.
وعلى مستوى آخر، أكد حسن فرحان، قاضٍ برئاسة النيابة العامة ورئيس وحدة قضايا الصحافة، أن الحق في الحصول على المعلومة ومكافحة الأخبار الزائفة يشكلان ركيزتين أساسيتين في معادلة العمل الصحافي المسؤول، حيث تتقاطع فيهما حرية التعبير مع ضرورات الالتزام المهني.
وأوضح فرحان أن رئاسة النيابة العامة تعمل، من خلال بنيتها الإدارية المختصة، “على تعزيز هذا التوجه عبر، التصدي للأخبار الزائفة ومروّجيها”، بالنظر إلى ما تسببه من تشويش على الرأي العام وتقويض ثقة المواطنين في الإعلام، وتكريس الحق في الحصول على المعلومة كحق دستوري مكفول للجميع، فضلا عن كونه يُعدّ، بالنسبة للصحافيين، عنصرًا جوهريًا لإنتاج مضامين مهنية وموثوقة.
وركز المصدر على أن تمكين الصحافيين من الوصول إلى المعلومة الدقيقة “هو شرط أساسي لضمان جودة العمل الصحافي، ويُسهم في تعزيز دور الإعلام في نشر الحقيقة وخدمة الصالح العام”، عبر مواجهة التضليل والإشاعة، وتقديم محتوى رصين يستند إلى معطيات موثوقة.
ومن جهته، شدد رئيس مصلحة الشؤون القانونية بقطاع التواصل بوزارة الشباب والثقافة والتواصل، سعيد تمام، على أن المنظومة القانونية المغربية، وخصوصًا في مجال الصحافة، “استلهمت بشكل واضح المقتضيات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها التسع اتفاقيات الأساسية التي يُعدّ المغرب طرفًا فيها”، والتي تُشكّل ما يُعرف بـ”الشرعة الدولية لحقوق الإنسان”.
وأوضح تمام، أن هذا التوجه الحقوقي يجد سنده في دستور المملكة، سواء من خلال الديباجة التي تنص صراحة على التزام المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميًا، أو من خلال الباب الثاني الذي يُعنى بالحقوق والحريات الأساسية.
وأشار إلى أن قانون الصحافة والنشر بدوره كرّس هذا التوجّه، لا سيما في المادة الأولى، التي تعتبر الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وتم نشرها في الجريدة الرسمية من مصادر هذا القانون، ما يعزز مكانة المرجعية الحقوقية الدولية ضمن التشريع الوطني.
وخلص تمام إلى أن هذا التوجّه يتجلى أيضًا في مجموعة من المقتضيات القانونية الأخرى التي منحت الصحافيين ضمانات خاصة تراعي طبيعة مهنتهم، المرتبطة بشكل وثيق بالمجتمع، وبمهمة نقل المعلومة بشكل مهني وحر ومسؤول.