خالد البكاري يكتب.. الحق في الفرح: الريف نغ
إلى: ناصر/ نبيل/ حاكي/جلول/ زكرياء/ سمير.
منذ إطلاق سراح مجموعة من الصحافيين والمدونين ومعتقلي الرأي، بموجب العفو الملكي الأخير، والذي تم استقباله بفرح، كان بمثابة استفتاء ضمني عن رغبة داخل فئات عريضة من المجتمع المغربي بوقف مسلسل التضييق على الحق في التعبير والتظاهر السلمي، المتصاعد منذ 2016، تعالت أصوات ودعوات وأمنيات كثيرة بإكمال هذا المسار، عبر تبييض السجون من معتقلي الرأي والتظاهر، وكان الرصيد الأكبر من هذه “المشاعر الجمعية” مركزا على معتقلي حراك الريف.
ولم يقتصر الأمر على التعبيرات التي وقفت إلى جانبهم منذ اليوم الأول لاعتقالهم، والتي ما فتئت تعبر في كل المناسبات عن تضامنها مع قضيتهم العادلة، بل إن أصواتا معروفة بمنافحتها عن “الأطروحة” السلطوية، أو نهجت مسلك الحياد السلبي، خرجت بدورها تدعو لإطلاق سراح ناصر ورفاقه.
لن يكون من المجدي الدخول في سجال حول السر في تبدل المواقف وخلفيات ذلك، بل المهم، هو البناء على هذه اللحظة، للخروج بخلاصة منتجة: إطلاق سراح معتقلي الحراك من مصلحة الجميع.
وهذا ما يمكن أن نسميه الالتقاءات الموضوعية التي غالبا ما تكون مدتها الزمنية عابرة، ويجب التقاطها واستثمارها بذكاء، وحكمة، ونظرة تتجه للمستقبل.
وفي هذا الإطار، نشرت مواقع وصفحات ما اعتبرته أخبارا “شبه مؤكدة” عن عفو ملكي قادم بمناسبة وطنية قريبة، وتحدث بعضها عن مصادر موثوقة (والمصدر الموثوق غير المصدر المأذون، لذا يجب وضع المسافات الحذرة، والتي لا تلغي الأمل).
هذه الأخبار المتواترة، استقبلها الكثير من المتضامنين وبعض عائلات المعتقلين بغير قليل من “الخوف” المشروع، لأن أفق انتظارها “للفرج” في تجارب سابقة، لطالما كسرته مثل هذه “التسريبات” على صخرة استمرار الاعتقال.
فحصل ما يشبه اليقين، بأن مثل هذه التسريبات تساهم في إفشال أي عفو محتمل، لأن “مربع صنع القرار” لا يقبل أن يتم الإعلان عن عفو، قبل أن يمضيه صاحب القرار النهائي، ويقع الإعلان عنه في بلاغ للديوان الملكي، أو على الأقل أن يوعز بذلك لمصدر مأذون من داخل الديوان الملكي نفسه، لا لمصدر “موثوق” على شاكلة “صديق صديق الملك”، أو “مقرب من مكلف بمهمة”.
وفي مثل هذه الأمور الحرجة إنسانيا، لأنها مرتبطة بمعاناة عائلات طالت، يصبح من الوقاحة التهافت على ادعاء “المعرفة” أو “العلاقات” أو “القرب”، والأكثر وقاحة ادعاء المساهمة في الوساطات، أو الإشراك فيها. ليس من طرف الأشخاص الذاتيين، بل حتى من طرف أولئك “الاعتباريين” الذين يمثلون مؤسسات، أو يشغلون فيها وظائف.
غير أن ذلك كله، لا يمنعني من توقع الإفراج القريب عمن تبقوا من معتقلي الرأي، والحراكات الاجتماعية، وفي مقدمتهم معتقلو حراك الريف السلمي ومعتقل حراك الماء بفكيك “موفو”، وحتى معتقلي بعض الأحداث السياسية ذات الخصوصية بأقصى جنوب البلاد.
وليس مرد هذا التوقع تسريبات أو أخبار، لا أملك قنوات الوصول إليها، بل هو اجتماع قليل من الحدس بقليل من تأمل في مجريات العفو الأخير، ومحاولة لربط وقائع متناثرة، قد لا يبدو بينها رابط في الوهلة الأولى، لكن بتجميع رقعة “البوزل” قد نقترب قليلا من الفهم الأولي.
ذلك أني أعتقد (وهذه المرة أتمنى ألا أكون مخطئا) أن العفو الأخير، لم يكن نتاج وساطات، أو ملتمسات من شخصيات تحظى بمكانة خاصة عند الملك، وطبعا لم يكن نتاج ضغوط داخلية من حركة المتضامنين الشرفاء ( التي ساهمت بطرق غير مباشرة، ولكنها غير حاسمة، بسبب ميزان قوى لا يميل لصالحها)، ولا نتاج ضغوط خارجية (فقد عرفت الدولة كيف تتجاوز حتى ضغوطا خرجت للعلن، ولم تبق حبيسة الغرف المغلقة، كتصريحات الخارجية الأمريكية مثلا، ولقد طورت السلطويات في المنطقة بدائل للالتفاف على توظيف ورقة حقوق الإنسان في العلاقات الخارجية).
وهذا لا ينفي أن قرارات العفو لا تأخذ بعين الاعتبار العوامل السالفة، لأننا بإزاء قرار سياسي في جوهره، ما دام غير مرتبط بمعتقلين في ملفات عادية، ولذلك فإن أكبر تسفيه للعفو الأخير هو ما قامت به الأصوات التي حاولت اختزاله فيما أسمته بالبعد الإنساني، مع أن تاريخ المغرب الراهن مرتبط بمحطات مفصلية، تم تدشينها بعفو ملكي شمل عددا كبيرا من المعتقلين السياسيين، ولم يجد حتى المعاصرون من الضالعين في “الآداب السلطانية” حرجا من اعتبار ذلك حدثا سياسيا لا إجراء بروتوكوليا عاديا فقط.
وظني أن قرار العفو الأخير كان بمبادرة من داخل القصر الملكي نفسه، دراسة للملفات وتقريرا فيها، لذلك كانت مفاجئا، حتى لو حاول البعض ربطه حصرا بالذكرى الفضية لتربع محمد السادس عرش المغرب، وهذا ما يفسر أن لا أحد كان يعلم بالأسماء التي سيتم الإفراج عنها، بما في ذلك حتى المقربون (أو من يدعي التقرب) من مؤسسات حساسة.
لقد اختار القصر هذا التوقيت لتقديرات سيتضح بعضها في مقبل الأيام، وستبقى بعض هذه التقديرات خفية، وإن كان السياق الوطني والإقليمي والدولي مشجعا على فتح نوافذ لانفراج أكبر.
يمكن للمرء أن يقدم الكثير من التخمينات، لكنها ستظل من قبيل ما تدعيه “الشوافات”، اللواتي حتى ولو صدقت تخميناتهن، فإن ذلك من باب الصدفة، وليس دليلا على علم مسبق.
لن أقول بأن الإفراج عن ناصر ورفاقه، سيكون بتاريخ كذا وكذا، أو في هذه المناسبة أو تلك، ولكن بتفحص لمعطيات كثيرة، فإن ساعة الفرج قريبة.
وأتوقع، لا عن رجم بالغيب، أو عن ادعاء “أخرق” بتوفري على “معطيات”، بل عن حدس فقط، بأن خطوات الإفراج عن معتقلي الرأي سيكون لها ما بعدها من تغييرات، قد تكون منعطفات، وقد تكون شكلية، كل ذلك رهين بالإرادات، والتقديرات، وموازين القوى، والعلاقات مع قوى ومؤسسات بالداخل والخارج (مما هو معلوم بالضرورة في السياسة باعتبارها في المحصلة النهائية: صنع للقرار في المسافة الفاصلة بين الكائن والممكن).
فبداية من 2016، بدأ المغرب يفقد صورته كبلد متقدم في حرية الرأي وهوامش الفعل السياسي المستقل عن الدولة، قياسا إلى محيطه الإقليمي، ولا أعتقد أنه ربح بتلك الانعطافة الحادة في سلطويتها.
واليوم، وبالنظر لما يقع في الجزائر، وبالأخص في تونس التي اندحرت إلى “البنعلة” في نسخة أكثر رداءة وشعبوية، فإن المغرب مؤهل لاستعادة ذلك الموقع الذي كان يضعه ضمن الأنظمة السلطوية الهجينة، التي تحمل ممكنات التطور الديموقراطي.
وإذا كانت ليلة 29 يوليوز معبرة عن فرح مغربي بالإفراج عن الصحافيين والمدونين، فإنه بقي فرحا فيه شيء من “حتى”، ما دام قد استثنى ليلتها آخرين، ومنهم معتقلو حراك الريف، و الرجاء أن تكون ليلة أخرى قريبة، تدخل الفرحة على منطقة بأكملها في شمال البلاد، ومعها امتداد ريفي مغربي في المهاجر، لطالما ساهم بتحويلاته من العملة الصعبة في الاقتصاد الوطني.