خالد البكاري عن حصيلة 25 سنة من حكم محمد السادس: نعيد إنتاج الفرص الضائعة
خصّ الناشط الحقوقي والمدني، خالد البكاري، العدد الخاص من مجلة “لسان المغرب” الصادر بمناسبة الذكرى 25 لوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، بمساهمة هذا نصها الكامل:
سأكتب اليوم باعتباري مواطنا، مجردا من أي انتساب سياسي أو إيديولوجي، سأكتب محاولا تخطي مجموعة من الألغام المزروعة في سياق ملتبس، ولكن مع تحري الصدق مع الذات أولا، ومع القارئ ثانيا.
إن هذه المقدمة وحدها دليل على أننا لم نعد نحس أنه بإمكاننا قول ما نريده بكل الوضوح الممكن.
هل كنا سابقا نتحدث بحرية أكبر؟
لا يمكن الادعاء أننا عشنا سابقا مرحلة ديموقراطية مكتملة، واليوم يتم التراجع عنها.
لكن في الآن نفسه، حين نقارن هوامش حرية التعبير التي كانت متاحة مع نهاية حكم الراحل الحسن الثاني، وبداية حكم محمد السادس، مع الوضع الذي نعيشه اليوم، نلمس انحسارا للوراء.
سأعود قليلا للوراء، إلى ذلك اليوم من صيف 1999، حين جاء الخبر اليقين بوفاة الحسن الثاني.
سأكون كاذبا إن قلت إني حزنت لموته، لكنني كذلك صادق في أنني لم أفرح لغيابه.
ولم أكن بالطبع خائفا من انفلات الأمور، بعد رحيل ملك كانت صوره في كل مكان، لكن الصورة الأكثر تأثيرا، تلك التي شيدها المتخيل الجمعي: الملك الداهية، الصارم، القاسي، المنتقم، المثقف،،
كنت مدركا أن دولة “المخزن” التي هندسها، قادرة على تأمين انتقال العرش بسلاسة، وأنه رتب تفاصيل هذا الانتقال بدربة الجنرال الذي يضع سيناريوهات مختلفة لاستراتيجية واحدة.
لكن الأمر الذي كان يحيرني: من هو محمد السادس؟
لم أستطع أن أضع فرضيات حول شخصية الملك القادم، فقبل ذلك كانت أخبار “ولي العهد” شحيحة، وحتى حين يشارك في نشاط إلى جانب والده، أو ينوب عنه في قراءة خطاب أو استقبال ضيف أو توشيح مكرّمين، لم تكن ملامح وجهه وحركاته تنبئ عما يمكن أن يسعف في الاقتراب من شخصيته.
وكان السؤال عندي، وأظنه عند الكثيرين من جيلي، ممن أصيبوا بداء السياسة/النضال: هل يمكن أن نشهد انتقالا ديموقراطيا مع الملك الجديد؟
فمن جهة، كان ثمة انفتاح نسبي محمولا على رياح الضغط الحقوقي الدولي في التسعينيات، وكانت حكومة تناوب توافقي يقودها معارض سابق، وكانت مساحات معتبرة من حرية التعبير والصحافة، حتى على مستوى الإعلام الرسمي، وإن لم يصل إلى سقف الإعلام الخاص مع جيل أبو بكر الجامعي وعلي المرابط وعلي أنوزلا، إلى درجة اعتبر البعض “لوجورنال” مثلا هي “إلباييس” الإسبانية في حقبة الانتقال الديموقراطي في صيغته الإسبانية.
ومن جهة أخرى، كنا أمام ملك جديد، لا نعرف له تورطا في ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبالتالي متحررا من إرث والده، ولم يكن على وفاق مع رجل داخلية الحسن الثاني الذي كنا نعتبره مسؤولا عن الكثير من الفظاعات والسياسات الفاشلة.
فالذي كان يروج عن ولي العهد سنوات قليلة قبل وفاة الحسن الثاني أنه يعطف على الفقراء، وأنه يكره ادريس البصري.
هل كان الأمر صحيحا أم أنه كان يدخل في صناعة الصورة؟
لا تهم سوى النتيجة، والنتيجة كانت هي أن الأمر تجاوز صناعة صورة إلى صناعة حلم.
وبعدها: إقالة البصري، عودة العديد من المنفيين، وفي مقدمتهم أبراهام السرفاتي (عدو الحسن الثاني والبصري) ورفع الحصار عن عبد السلام ياسين رغم رسالته “إلى من يهمه الأمر” (هل كارن ردا للتحية بأحسن منها؟)، المشروع الحداثي الديموقراطي.. المفهوم الجديد للسلطة.. زيارة الريف واستقباله لسعيد بن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.. ملك الفقراء.. غياب مظاهر التبذير عن حفلات عيد العرش.. القطع مع المدح التكسبي الذي كان مرافقا لتلك الحفلات على شكل قصائد رديئة وأغان وطنية كانت تتناسل عند كل مناسبة وطنية كالف.. ولاحقا مدونة الأسرة وهيئة الإنصاف والمصالحة وبث جلسات شهادات ضحايا زمن الجمر والرصاص مباشرة على القنوات الرسمية، وإلغاء التطبيع مع “إسرائيل”.
على المستوى الشخصي، كنت في بدايات الخروج من كثير من اليقينيات التي بنيتها في المرحلة التلاميذية والطلابية.
كانت الإيديولوجيات الكبرى يخفت بريقها أمام عيني، وأشهد انتصار الرأسمالية في أكثر تجلياتها المتوحشة، وكان الخطاب الحقوقي يأسرني، ويمثل تعويضا عن الانهيارات الإيديولوجية.
إن مجتمعا بدون طبقات هو مجرد يوتوبيا. قد تكون ناجعة في تحفيز المقاومة للهيمنات الرأسمالية، والإمكان الواقعي هو النضال من أجل حققو الإنسان في كونيتها وشموليتها، هكذا كنت أردد.
وإن الديموقراطية لا يمكن بناؤها بين ليلة وضحاها، فإلى جانب الصراع ضد الاستبداد والشمولية، يلزم القيام بمجهود لتبيئة قيم الديموقراطية والحداثة داخل بنيات المجتمع المحافظة. وبدون ذلك قد تتحول هذه البنيات إلى آليات مقاومة تخدم الرجعية، فتظل حليفا لكل القوى التي لا مصلحة لها في التغيير، هذا ما بدأت أومن به، لدرجة أني أصبحت مستعدا لقبول ديموقراطية ناقصة شريطة أن تتقدم ولو ببطئ، المهم ألا تتراجع للوراء.
في تلك المرحلة، كنت قد تجاوزت الموقف السلبي من الملكيات، العائق الذي كان نفسيا أكثر منه سياسيا (على الأقل في حالتي)، فالمهم هو المضمون، وكنت أعقد مقارنة بين الملكيات الأوروبية، والجمهوريات العربية والإفريقية.
ولذلك لن أفشي سرا إن قلت: لقد كنت ممن عقدوا آمالا على ما كان يسمى آنذاك العهد الجديد.
ولقد عقدت آمالا قبلها، على حكومة عبد الرحمان اليوسفي.
هل كانت آمالا أم كانت ترجمة لإحباط نفسي من توالي الهزائم، وترجمة الإحباط هي: اللهم العمش ولا العمية.
ربما كنت مفرطا في التفاؤل، أو لم أكن واقعيا، ولكن الأكيد أن الله عافاني من آفة الوقوعية، والتي تعني تبرير الانتهازية، وتغيير المعاطف بغية المكاسب، بادعاء الواقعية.
أذكر أنني عارضت مطالبة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمحاكمة الجلادين مع ذكرها لأسمائهم، واعتبرت أن تلك المطالبة في ذلك التوقيت الحساس (الملك للتو بدأ ممارسة مهامه) سابقة لأوانها، فلا يمكن أن نطلب من ملك جديد محاكمة كبار مسؤولي الدولة دفعة واحدة، وكأننا أمام ثورة أسقطت نظاما. كما أذكر أني كنت مدافعا عن المرحوم ادريس بنزكري، معتبرا أن ما يقوم به هو نوع من التسويات النبيلة التي يمكن أن تحقق مكاسب للضحايا، وفي الآن نفسه تحفظ للدولة هيبتها.
لن أتحدث عن المياه التي مرت تحت الجسر، وفي الاتجاه المعاكس للحلم.
لكني سأطرح بألم، وخيبة أمل سؤالا على الجميع: كيف عدنا إلى الاعتقالات بسبب الرأي، وإلى المحاكمات الظالمة؟ إلى متى سنستمر في ترويج الأوهام عن مغرب قوي، فيما كل التقارير والتصنيفات الدولية تضعنا في مؤخرة الركب (التعليم، الصحة، الشفافية، حرية الصحافة، الدخل الفردي…)؟ كيف نمت وحوش التخوين والتشهير والنهش في الأعراض مغلفة بأقنعة الوطنية المفترى عليها؟
اقتناعي اليوم بعد ربع قرن من حكم محمد السادس أننا نعيد إنتاج الفرص الضائعة.
وحسبي أني كنت صادقا وأنا أربي أملا في بدايات هذه الألفية، وظللت صادقا وأنا أعبر عن خيبة أمل، ولم أبتغ في الحالين لا جزاء ولا نفعا.
في 1999 قال قائد الشبيبة الاتحادية يومها محمد الساسي: من يحب ملكه، عليه أن يقول الحقيقة.
بعد 25 سنة، يقتضي الصدق أن نقول: من يحب هذا الوطن، عليه أن يقول الحقيقة، وإن لم يستطع، فعلى الأقل ألا يقول باطلا، فالبلاد ما عادت في حاجة للمهدئات، بل لعملية جراحية تستأصل الكثير من الأورام/ السياسات السرطانية.