story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

حياة وموت في الخَ…

ص ص

كان المساء يهبط ببطء على دوّار النواصر بسيدي بوزيد (إقليم شيشاوة) حين انزلقت القدم الأولى.

نزل الأب إلى المطمورة لِـ”تنظيفها” كما اعتاد، وما إن لامست أنفاسه قعر الحفرة حتى باغتته الغازات السامّة: نَفس قصير، دوار حاد، وسواد يبتلع الضوء.

صرخ الرجل فهرع الأبناء الثلاثة، من بينهم بنت، فسقطوا في الحفرة واحدا تلو الآخر، تتناوبهم الرغبة الفطريّة في الإنقاذ وكمين غاز عديم اللون، لا رحمة له.

جاء الجار يجري، مدّ جسده فوق الفتحة الضيّقة محاولا انتشال روحٍ من القاع، فاختطفته الفوْهة نفسها.

خمس أرواحٍ تُفقد في دقائق، وفتحة ضيّقة تعاند فرق الوقاية المدنية ساعات طويلة قبل أن تستسلم للجثامين.

هذه ليست لقطة من فيلم رعب. هذه واقعة جرت أمس الأربعاء 24 شتنبر 2025 في المغرب. خمس أرواح ذهبت في دقائق لأن بلدا بكامله قبِل أن يسكن مواطنوه فوق حُفر للفضلات كقطعة من هندسة البيت.

ما الذي يُبقي حفرة البراز (أعزكم الله) جزءا من تفاصيل الحياة اليومية في بلد يفاخر بمشاريع القرن؟

في الموقع الرسمي المسمى بوابة الجماعات الترابية، نقرأ عن أهداف برنامج وطني للتطهير السائل تم إطلاقه قبل عشرين عاما:

• جعل التطهير السائل من الأولويات الحكومية.
• تدارك التأخير الحاصل في قطاع التطهير ومعالجة المياه العادمة.
• بلوغ نسبة ربط بشبكة التطهير تصل إلى % 80 بالوسط الحضري.
• محاربة التلوث الناتج عن المياه العادمة والنقص منه إلى أقل من %60.
• تحسين معدل الاحترافية والمهنية في تدبير هذا القطاع.

وفي 22 يوليوز الماضي، أي قبل شهرين فقط، نقرأ في جواب لوزير الداخلية عبد الوافي الفتيت في مجلس المستشارين:

“تم تجهيز 43 مركزا بشكل كامل بشبكة الصرف الصحي ومحطة معالجة المياه العادمة من أصل 1207 مراكز قروية، لفائدة ساكنة تقدر بـ105 ألف نسمة، والشروع في تجهيز 170 مركزا قرويا، لفائدة ساكنة تقدر بـ442 ألف نسمة”.

بالله عليكم أين هي الصلة بين الأهداف المعلنة والملايير المرصودة وما تحقّق بالفعل بعد خمس سنوات من الأفق الذي كان يفترض أن تتحقق فيه الأهداف الأصلية؟

من الذي قصّر وكيف تمت محاسبته وما مصير هذه الأرواح التي تتعايش مع فضلاتها وتموت غرقا فيها؟

ولماذا سنواصل التخطيط والتنفيذ والإنفاق إن لم يكن هناك إنجاز؟

لقد تحسّن وضع مدن كثيرة. وتم تجهيز مئات المراكز بشبكات ومحطات. وارتفع معدل الربط الحضري. هذه حقائق لا يجوز إنكارها. لكن نصف الحقيقة أشد ظلما من الكذبة الكاملة.

في القرى ما يزال المشهد “خرائيا” بامتياز. يشهد بذلك تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي قال إن حوالي نصف الأسر القروية ما تزال تطرح نفاياتها السائلة في الطبيعة، وإن نسبة الربط العمومي في القرى لا تكاد تتجاوز ثلاثة في المئة.

أي نعم، هؤلاء المغاربة الذين نريدهم خزانا لأعيان الانتخابات و”حماة” للعرش، ومنتجين للأمن الغذائي… يعيشون محاطين بفضلات أجسامهم، والمحظوظون منهم ينامون فوقها كمن ينام فوق قنبلة هيدروجينية.

الذين ماتوا أمس في مطمورة الفضلات، ومن يتعايشون مع برازهم حتى الآن، ليسوا أرقاما مجرّدة. هناك بيت واحد من كل بيتين تقريبا، يعيش على تماس مباشر مع فضلاته. حيث لا شبكة ولا محطة ولا بديل آمن، لتبقى المطمورة هي الملاذ الوحيد لمن استطاع إليها سبيلا.

هناك اختلال كبير بين سياسات الدولة نفسها، حيث تعيش القرى المغربية اليوم مشهدا مزدوجا: مياه الشرب تصل إلى أماكن كثيرة، وهذا إنجاز. لكن مياه التطهير تبحث لنفسها عن مسار. ولا وجود لشبكات في معظم المراكز القروية. ولا محطات قريبة تستقبل ما يخرج من البيوت. أي أن الدولة المغربية تقول لمواطنيها كلوا واشربوا واصنعوا من فضلاتكم قبورا تقتل كرامتكم قبل أن تقبض أرواحكم.

مطمورات تحفر سريعا وتغلق سريعا وتُنسى سريعا. بعضها تحت البيت مباشرة. وبعضها الآخر بلا تبطين ولا تهوية ولا غطاء آمن. بل إن بعضها قريب من آبار الشرب.

هنا يتعايش الجسد مع فضلاته من دون مسافة كافية. وتتسرب الروائح والغازات والجراثيم إلى الهواء والماء والتراب. ولا رقابة هندسية ولا صيانة مهنية، ليصبح الدخول إلى الحفرة عملا انتحاريا، حتى لو كان بدافع إنقاذ قريب.

لا يكفي أن نقول إن هذا وضع مؤقت. لقد مضت سنوات طويلة ونحن نسمّي الانتظار سياسة. في المدن تحقق نصف الطريق، أما القرى فبقيت على عتبة المطمورة “الخانزة”.

43 مركزا قرويا مجهزا من أصل 1207. هذا يعني أن من وُلد في مدينة وُلد في زمن الصرف الصحي. ومن وُلد في قرية كتب عليه أن يتعلم الخريطة من رائحة الخَراء (حشاكم)، وهذا غير مقبول.

لا أحد يطلب المعجزات. كل ما يُريده بعض المغاربة هو أن تتحول البرامج من وعود إلى وقائع تحمي الأرواح قبل أن تحسّن المؤشرات.

السؤال يخرج اليوم من جوف المطمورة لا من قاعات الاجتماعات والندوات: لماذا يظل التنفيذ بطيئا إلى هذا الحد بينما تتكدس الوثائق الرسمية بالإنجازات؟

لماذا نرى ملاعب غولف ومساحات خضراء تُسقى بمياه معالجة في الوقت الذي لا تزال فيه قرى بكاملها تسكن فوق حفرة الموت العطن؟

لا حاجة بنا إلى نشر المزيد من المذكرات والمناشير. الحاجة اليوم إلى قرار واضح يغيّر الاتجاه. والبداية بسيطة ويمكن أن تصدر غدا:

يمنع منعا باتا وجود حفر للفضلات تحت المباني، مع فرض معايير هندسية إلزامية لأي منشأة صرف فردية تضمن التبطين والتهوية والغطاء الآمن وتبعدها مسافة مفروضة عن البيوت والآبار.

ينبغي أن يُعلن برنامج طوارئ قروي سريع لا ينتظر أفق 2030 و2040، يختار المراكز الأكثر هشاشة، ويجهّزها خلال عام أو عامين بخيارات تقنية منخفضة الكلفة ومناسبة لطبيعتها. تُعبأ لها الأموال من الدولة والجماعات والشركاء الدوليين من دون بيروقراطية خانقة.

الكرامة ليست عنوانا أدبيا نطبعه في بيانات التنمية. الكرامة قالب خرسانة فوق حفرة. وأنبوب محكم لا يتسرب منه شيء. ومحطة تعمل في الليل قبل النهار. وصيانة دورية ومراقبة دائمة.

الكرامة مسافة إنسانية بين الجسد وما يخرج منه من فضلات. والدولة التي لا توفر هذه المسافة لا تستطيع أن تشرح لشعبها معنى التحول الأخضر ولا الاقتصاد الأزرق.

قبل كل الألوان هناك لون واحد يجب أن يُمحى من الحياة اليومية: لون البُراز الذي لا ينبغي أن تكون جزءا من هواء طفل في قرية.

رحم الله الذين ماتوا أمس. ورحم الذين سبقوهم إلى الموت في مطمورات الإهانة المضاعفة. ولا خير فينا إن لم نجعل هذه الحوادث حدا فاصلا بين زمنين.

لا يليق أبدا بالمغربي أن يعيش على حافة حفرة.

لا يليق به أن يموت في الخراء.