حكام كرة القدم ونظرية المؤامرة
ص
ص
نتخيل أن موظفا كبيرا ذو طموح مهني، ويشتغل داخل مؤسسة عملاقة تخضع للكثير من المراقبة والإفتحاص، وتتجه إليها العيون باحثة عن الشادة والفادة، وعن أي سلوك غير قانوني لموظفيها.. هل بإمكان هذا الموظف أن يغامر بسهولة بمستقبله المهني، وطموحه الشخصي، بل ومصدر رزقه الذي يضمن له مستوى معيشي جيد هو وأسرته، ويقبل الدخول في ممارسات مشبوهة، يعلم أنها قد تؤدي إلى فصله من عمله أو تجمد ترقيته، أو قد يصبح موضوع فضيحة تقلب حياته رأسا على عقب؟
كذلك هم حكام كرة القدم الذين يزاولون في المستوى العالي، وقد يكونون حاملين للشارة الدولية، فهم محترفون والتحكيم هو وظيفتهم ومصدر رزقهم، ولهم فيه طموحات مهنية للترقي والشهرة، وإثبات الذات بالكفاءة والنزاهة، وهم كباقي الموظفين الذين يشتغلون في المؤسسات التي تسلط عليها أضواء الإعلام والرأي العام، حريصون على الإبتعاد عن أي سلوك مشبوه، أو تعليمات خارج القانون، أو أي شيء “يحرق” مسيرتهم الرياضية ويعصف بطموحاتهم في الوصول إلى مكانة متميزة في عالم التحكيم.
في تاريخ كرة القدم على مستواها العالي، مثل باقي الوظائف التي يشغلها الإنسان، وهو الكائن الذي قد يضعف أحيانا أمام إغراءات المال والمصالح، طبعا هناك حالات قليلة لحكام ثبت بالدليل والبرهان والأحكام القضائية، أنهم فاسدون ومرتشون وساهموا عن عمد وبسوء نية في تغليب فريق على آخر. وتسببوا في هزيمة أندية ومنتخبات، وإقصائها من التأهل، وحرمانها أيضا من لقب مستحق.. لكن هذا المعطى لا ينفي أن الأغلبية الساحقة من قضاة الملاعب لهم من القناعة والذكاء ما يجعلهم يرفضون أي تلاعب قد “يخرج” عليهم وعلى مهنتهم.
والحكم الذي وصل إلى مستوى إدارة مباراة يتابعها العالم، ويقبل “بيعها” لأحد الفريقين أو المنتخبين، أو يطبق تعليمات لمساعدة أحدهما، لا شك أنه سيكون فيه مس من الحمق، أو “كامبو” بصريح العبارة.
ظاهرة التشجيع المتعصب لكرة القدم جعلت نظرية المؤامرة تسود في كل حديث عن أداء الحكام، وتجزم بسوء النية، وتَلَقي التعليمات، وتَعمّد مساعدة الخصم لكي يفوز، وأصبحنا عقب جل المباريات أمام كورال جماعي للطعن في نزاهة الحكام وحيادهم، والحديث عن ولائهم لهذه الجهة أو تلك، متناسين أن تحكيم كرة القدم فيه هامش كبير للخطأ، وتكثر فيه الحالات التي يتم البث فيها بالسلطة التقديرية، والتي لا ينفع فيها “الڤار” ولا أحدث ما جد من التكنولوجيا.
حكام المباراة تقنيا مثلهم مثل اللاعبين والمدربين، الذين يمكن أن يخطؤوا ويتسببوا في خسارة فريقهم، وحكم المباراة عندما يخطئ في أحد قراراته، هو مثل مدافع أخطأ في تمرير الكرة فسرقها مهاجم الخصم وسجلها، ومثل حارس مرمى قام بخروج خاطئ أو انفلتت الكرة من بين يديه ودخلت المرمى، ومثل مدرب أساء اختيار عناصر تشكيلته أو أخطأ في تغييراته أو في وضع الخطة المناسبة للمواجهة، فلماذا لا نطعن في نزاهة هؤلاء، أو نتهمهم بسوء النية وتعمد الخسارة؟؟ أليس في هذا الأمر نوع من السوريالية في الأحكام.
صحيح أن أخطاء حكام كرة القدم في مستواها العالي تزايدت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت تثير الكثير من الجدل في كل البطولات، ولكن لا أحد يناقش سببا وجيها لذلك وهو الضغط الرهيب الذي صار يعيشه الحكام قبل كل مباراة وأثناءها نتيجة تطور تقنيات النقل التلفزيوني وانتشار وسائل التواصل الإجتماعي، وسيادة نظرية المؤامرة في كل المرات التي يخطئ فيها الحكام.
ثم هناك جانب آخر فيه الكثير من الحيف لحكام كرة القدم اليوم، وهو أنه رغم كونهم الأكثر تعرضا للضغط ولأضواء الجمهور ووسائل الإعلام، والأكثر تحملا للمسؤولية الجسيمة في ضمان سلامة المباريات التي يشاهدها ملايين الناس في الملعب وعبر الشاشات، فهم الأقل تعويضا ماديا عن تلك “تمارة الكحلة” مقارنة باللاعبين والمدربين، إذ يمكن أن تجد لاعبا أو مدربا مغمورا في فريق كبير يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه حكم المباراة الشهير عشر مرات، وهذا الأمر لوحده من المفروض أن يدفعنا لأن نتعاطف مع حاملي الصفارة ونتقبل أخطاءهم ونعتبرها جزءا إنسانيا من اللعبة، لا أن نجعلهم المشجب الذي نعلق عليه كل خساراتنا وهزائمنا.