story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حديث تجديد الدين بين د. القرضاوي ود. أحمد توفيق

ص ص

ليس من قبيل الصدفة أن يكون عنوان درس السيد الوزير أحمد توفيق في افتتاح الدروس الحسنية لهذه السنة (1445-2024) أمام عاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس، هو نفسه العنوان الذي عنون به يوسف القرضاوي درسه أمام الحسن الثاني إبان فترة الثمانينات من القرن الماضي، وأثار وقتها ضجة كبيرة بسبب الأخذ والرد ببنه وبين جلالة الملك حول ألفاظ الحديث وروايته .

القرضاوي في الحالتين كان بمثابة الحاضر الغائب، لأن النص الذي أثار لغطا في محاضرة السيد الوزير هذه السنة كان حول موضوع الربا.. يقول السيد الوزير: “… أما القضية 13 فتهم التعامل مع الأبناك، ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت…”.

آه، هذه الربا الذي أفتى فيها القرضاوي لأصحاب الضرورات في ديار الغرب بإباحة اللجوء اليها لغياب البديل الإسلامي… ولسوء حظ الفتوى أنها صدرت من المغرب حيث كان يتواجد القرضاوي في عطلة، والتي قرأها الفاعل السياسي في المغرب قراءة خاطئة ودفع بالمجلس العلمي الأعلى على عجل إلى إصدار فتوى مضادة، لكن بخطاب الوزير هذا سيضطر المجلس العلمي الأعلى -ولو بعد حين- إلى إصدار فتوى أخرى بحلية بعض أنواع المعاملات البنكية في المغرب كما يظهر من درس الوزير أمام جلالة الملك .

إن الدرس الافتتاحي الذي تلاه السيد الوزير هو برنامج مستقبلي وأمر-ولو بالتراخي- على أن تشتغل المجالس العلمية على تلك المقترحات التي اقترحها السيد الوزير.

يُآخذ على المجالس العلمية، وفي شخص ممثلها وزارة الأوقاف – عند البعض -أنها لا تتعامل بإيجابية في المهام المنوطة بها، رغم الإشارات التي تعطى لها من أصحاب القرار، لتجدد خطابها الديني وتتعامل مع الواقع الجديد الذي تفرزه التحولات الفكرية والسياسية في العالم.

ويضرب هؤلاء المؤاخذون كمثال على هذا الشرود، أنه سبق أن وجه لها سؤال عن حكم المرتد، فتم الافتاء بقتله، فأحدثت هذه الفتوى استياء كبيرًا من أعلى سلطة في البلاد، فتم على استعجال وضع خطبة جمعة بحضور جلالة الملك وبصفته الدستورية كأمير المؤمنين: موضوعها حرية المعتقد انطلاقا من الآية الكريمة “لا إكراه في الدين” وتم من خلالها الرد الشرعي على الفتوى “المنحرفة” بدلائل تناهض فتوى المجلس العلمي.

بعد ذلك، وخلال أشغال الدورة الثالثة والعشرين للمجلس العلمي الأعلى صدر من خلالها وثيقة “سبيل العلماء” في 98 صفحة تحت عنوان: “قضايا العدل والتضامن والحقوق والحريات في الأمة”، تم التراجع عن الفتوى الأولى، واضطر الوزير ليقف أمام البرامان ليعلن أن فتوى المجلس العلمي الأعلى السابقة -وهي في حقيقتها فتوى موجهة لوزارة العدل مجرد رأي فقهي وليست بفتوى.

ليس الهدف من هذا النص تأييد طرف ضد آخر، فهذا ليس موضوعه هنا، وإنما الهدف تتبع ما جرى ويجري وربط أحداث سابقة بأختها اللاحقة واستنطاق الوقائع كما هي . هذا الاستنطاق والربط يكشف أن المجالس العلمية في عمومها لا تعرف ما المطلوب منها.. فهي تائهة ولا خطط لها مستقبلية، تستقبل تعليمات وزارة الأوقاف وتقوم بتنفيذها حرفيا، هذه التعليمات لا يجوز الاجتهاد حولها… فلا أجر للمخطئ فيها. ولهذا صارت تعتقد أن كل المطلوب منها هو أن تردد كالببغاء الثلاثية المقدسة المغربية: العقيدة الأشعرية، والتصوف السني، وطريقة الجنيد) والمذهب المالكي).

إن درس الوزير، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، هو إنذار شديد لهذه المجالس كي تقوم من سبوتها الطويلة وتغادر مكاتبها الفارهة إلى واقع تنخرط فيه مع المجتمع المدني تحت لافتة (المذهب المالكي الأخلاقي). وتعتبر كلمة الوزير نقدا ذاتيا قبل ان يكون نقدا للآخرين. هذا النقد جاء استجابة للتحولات التي سيعرفها الشأن الديني في المغرب .

كنت ذات يوم مارا رفقة أحد الأصدقاء أمام مسجد محمد الخامس، وهو من كبار مساجد طنجة، حيث مقر المجلس العلمي الجهوي ومجلس جهة طنجة، فلاحظ صديقي انه يوجد في نفس الموقع المخصص للأوقاف، أحد فروع البنك المعروفة في المغرب، وقال لي مستنكرا ما هذا المنكر؟ بنك في نفس الارض والعقار التابع للمسجد؟ فقلت له متغافلا: “وما المانع يا صديقي؟”.

“كيف يجوز لهم كراء بنك ربوي جنب المسجد وملحقاته؟ وفي نفس الوعاء العقاري؟”، قال صديقي.

قلت: “ربما للسيد الوزير رأي آخر غير الذي ترى، أنت تراه بنكا ربويا، وهو قد يراه بنكا لا يختلف عن البنوك التشاركية.

راح صديقي يستعرض الآيات والأحاديث المتعلقة بحرمة الربا وأنها من أكبر الكبائر، فقلت له: أليس الدين النصيحة؟ فقال لي: نعم. فقلت له: اكتب للسيد الوزير والوزارة وكل من له علاقة بالموضوع، فالمغرب والحمد لله له دستور يضمن حرية التعبير، فقط بأسلوب مؤدب ومتحضر.

إشكالية قروض البنك وموقعها في فقه المعاملات كان الموضوع الشاغل لدى الوزير منذ سنين، فقد سبق للسيد الوزير أن استقدم خبيرا من ماليزيا وجالس العلماء ليبين لهم بأن معاملات البنوك لا حرج شرعي فيها، لكنه لم يستطع اقناعهم بشيء، وقد كتب حينها العلامة الشيخ محمد التاويل، وهو من كبار الفقهاء المالكية في المغرب كتابه الشهير: “وأخيرا وقعت الواقعة.. وأبيح الربا”، يرد فيه على من يقول بإباحة القروض البنكية.

كان لشيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي، كتاب يحل فيه فوائد البنوك، وهو كتاب عنوانه دال على مضمونه: “معاملات البنوك وأحكامها الشرعية”، وقد رد عليه الشيخ القرضاوي بكتاب: “فوائد البنوك هي الربا الحرام” .

كان الطنطاوي هذا صديقا للسيد الوزير، وكانت توجه له دعوة دائمة ورسمية لحضور الدروس الحسنية، وقليلا ما كان يتخلف، وحينما توفي رحمه الله لاحظ المتتبعون بصفة لافتة وايجابية بأن جلالة الملك محمد السادس وجه رسالة تعزية لأسرة الطنطاوي .

التمعن في الدرس الحسني الذي ألقاه السيد الوزير أمام جلالة الملك يبيّن أنه مهد لفكرته بطريقة تراتبية وذكية، حيث انطلق من رسالة القرن التي وجهها الحسن الثاني للامة الإسلامية .لنلقي نظرة مختصرة على الدرس :

في خطاب السيد الوزير وأثناء حديثه عن رسالة الملك الحسن الثاني الذي وجهها جلاته بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري، وبما أنه مر على الرسالة الملكية أكثر من عقدين من الزمان، فإنه انطلاقا من تلك الرسالة يذكر، بكفية مجملة، عمل إمارة المؤمنين في حفظ الدين الشامل للحياة وتجديده من خلال قضايا أجملها في عشرين مسألة، أغلبها كانت في العموم وبدون تفصيل، باستثناء المسألة الثالثة عشر المتعلقة بمعاملة البنوك، فقد قال بالحرف:

“أما القضية الثالثة عشرة فتهم التعامل مع الأبناك ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم أن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة، وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة. وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك، أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وفي ماعدا ثمن الأجل ومقابل الخدمات فإن الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصاد في البلد “.

آه، هذا هو البند الذي تم تفصيله دون البنود الأخرى، وقبل استعراض البنود العشرين، تعرض الدرس لمقدمات حول التجديد والمجددين لا تخلو من دلالة، حيث بدأ بالداعية الهندي المثير للجدل: أحمد خان الذي كان من التجديدين الذين “تجرؤوا حتى على الأصول في مثل التمييز في المقتضيات بين المحكم وبين المتشابه في القرآن أو من قال بإنكار السنة كمرجع”.

ويضيف الدرس مشيرا إلى التجديديين: “ومنهم من سعى الى التأويل من أجل التلاؤم مع المراد العقلي في أحكام تتعلق بقضايا كالربا أو بالعقوبات البدنية أو الجهاد أو بالمرأة، وظهر من قال بأن القرآن ليس مدونة قانونية، وبأن الشرع لا ينبغي أن يدخل في الجزئيات، وأن الاسلام قد ترك بعض عادات العرب دون تغيير فحسبت عليه “، ومن هؤلاء من اشتهر بين العرب كالشيخ محمد عبده الذي دعا إلى تفسير الدين بما يتناسب مع المعارف الحديثية، ويوحي تأليفه في التوحيد بأنه رصد بيت القصيد في أمر التجديد وهو التزكية “…

ثم بعد هذا يكشف السيد الوزير عن مشروعه المنشود. فبعد التنويه بمنهاج التصوف قال:” وقد ظهرت في الأمة كما سبقنا أن ذكرنا طائفة بَنت دعوتها على التزكية، وعرفت باسم الصوفية، وكان اسهامها في الدين والتدين من أعظم ما أكرم به الإسلام أهله والإنسانية جمعاء، طائفة اهتمت إلى جانب التذكير بحقيقة التوحيد بأنواع من نفع الناس وتتلخص حكمتها في عمل واحد ألا وهو إعمال الذكر من أجل إيقاظ همة الذاكر حتى يكتسب نفسا لوامة تحاسبه على ما ينبغي أن يأتيه وهو المعروف، وما يجب أن ينتهي عنه وهو المنكر…”.

ثم يختم الوزير بالقول: “والخلاصة هي أن آفاق هذا التجديد رهينة بنزول العلماء إلى الميدان انطلاقا من المساجد، معانين بالأئمة والمرشدين والمرشدات مع إحياء جماعة المسجد اذا توفرت الشروط، عاملين وفق نهج يستمد هندسته من السنة النبوية الأولى، أي التدين الذي يحرر الإنسان من الأنانية”، “لأن قضية تخليق الحياة في هذا العصر قضية مصيرية على مستوى البشرية جمعاء، ومن هذه الزاوية نفهم اقتراح مؤلف كتاب “الدولة المستحيلة” وهو اقتراح يقتضي ان يستمد المسلمون من تراثهم الأخلاقي ليصلحوا أحوالهم…”.

مصطفى الهاشمي