story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جيل السّباع

ص ص

عجيبة تلك اللقطات التي عبرت أمامنا في اليومين الماضيين: شباب أدهشونا بسلميتهم وعفويتهم، واخترقونا بثبات نظراتهم وهم يقفون وقفة واثقين في وجه قوات لا تُشبه الأمن ولا النظام في شيء حين تتصرّف على هذا النحو.

لمعت الهواتف في أيديهم كأنها مصابيح صغيرة، ووجوههم ساكنة كالماء، وخُطاهم على الأرصفة مدروسة لا تستفزّ أحدا ولا تُعطي ذريعة.

كلما سُئلوا: ما الذي أخرجكم؟ جاء الجواب بسيطا كالحقيقة: فين هو التعليم؟

وهل رأيتم ذلك الرجل الذي كان يهتف من أعماقه: “أنا مواطن”، فيما كانت الأيادي تجرّه نحو السيارة؟ إنها ليست صيحة عابرة، بل إعلان هوية وحق. “أنا مواطن” أي إنني صاحب السيادة، وأصلُ الشرعية، ودافعُ الضرائب التي تُؤدَّى منها أجور الشرطي الذي يجب أن يحميني لا أن يُخيفني.

أندرك أننا أخيرا أمام إنسانٍ مغربيٍّ استعاد تعريف نفسه، ووقف على قدميه ليذكّر الدولة والمجتمع معا بأن العقد الاجتماعي ليس منّة، بل تعاقد على الاحترام والحماية والكرامة؟

من أفضل وأجمل التعليقات التي صادفتها هي تلك التي وصفت صور اعتقال الشباب اليافعين واقتيادهم، من طرف قوات مدجّجة بكل مظاهر القوة والعنف، نحو السيارات المصفّحة والمراكز الأمنية قائلة: “إنه اعتقال المستقبل”.

هو فعلا اعتقال للمستقبل، وانتهاكٌ جسيم لحقه.

لنتصوّر للحظة واحدة الأثر الذي ستخلّفه لحظة الاعتقال والاقتياد والتحقيق وحجز الهاتف والتفتيش، في أذهان هؤلاء الشباب الذين هم المستقبل.

ما شاهدناه في اليومين الماضيين هو مشهد زهور في ريعان الشباب، خرجوا ليطالبوا بشغل ومدرسة ومستشفى، في أقصى درجات النظام والاحترام والسلمية والتحضّر.

وفي المقابل رأينا دولة تعربد على القانون، وتُطوّح بالدستور، وتستولي على الوسائل البشرية والمادية التي وفّرها المغاربة لتأمين أنفسهم وحماية نظامهم، فإذا بها تستخدم هذه الوسائل العمومية في إشاعة الفوضى وزعزعة الاطمئنان وتهديد النظام العام.

نعم، هذا صكّ اتهام مباشر وواضح. فقد رأينا الدولة متلبّسة باقتراف عكس ما فوضها مواطنوها للقيام به، وقد حوّلت قواتهم العمومية إلى أداة للاعتداء على أبنائهم، وجرجرة نسائهم في الشوارع، وكسر طمأنينتهم والتجاوز في حقّ كبارهم وصغارهم.

أيّ مشهد مقيت هذا الذي صنعناه حين اتُّخذ قرار اعتقال كلّ من يتحدث إلى الصحافة؟ وأيّ ذكرى نتركها في سجلات العالم كلّه عندما سيشاهد قوات يُفترض أنها أمنية ونظامية تُقدّم على اعتقال شخص فقط لأنه يتحدث أمام كاميرا؟

ألهذه الدرجة وصل التعطّش للقمع وملء المراكز الأمنية بالمعتقلين؟ ولهذه الدرجة يحتاج أمنيونا إلى اقتيادنا عشوائيا فقط لأنهم لم يألفوا مواجهة النداءات الافتراضية والكائنات الرقمية، ويصرّون على الإمساك بخناقنا ونحن لحمٌ ودم، والنظر في بطائق هوياتنا وسؤالنا: سميت باك؟ وسميت مك؟

إنها دولة خائفة هذه التي رأينا منذ مساء السبت 27 شتنبر 2025.

دولة مرعوبة من أطفال ويافعين خرجوا يسألون: أين الصحة؟ أين التعليم؟ أين الشغل؟

لقد حرصنا في هذه الصحيفة على أقصى درجات الحذر المنهجي والتريّث؛ وراقبنا الدعوات الرقمية وتساءلنا كما تساءل الجميع، دون أن نتسرّع أو نعلّق.

لكننا الآن أمام فعل ماديّ ملموس، شاهدناه وسمعناه ولمسناه: مواطنون مغاربة قرروا الخروج لقول ما نقوله جميعا، بدءا من الخطب الملكية ووصولا إلى آخر عاطل غير متعلّم.

شباب قرّر أن يبادر بصناعة الأمل، ويُعلن ميلاد جيل جديد من الوطنية وحبّ الانتماء.

نعم، الاحتجاج هو أسمى صور الوطنية والتعلّق بالأرض، لأن من لا أمل له لا يحتجّ ولا يطالب، بل يموت في صمته.

هؤلاء الشباب لم يخرجوا للاحتجاج ضد الدولة وحدها؛ احتجاجهم هو ضدّنا نحن قبل الدولة: احتجاج على سلبيتنا وجبننا وخمولنا وانسحابنا ورضانا بالفرجة على الفساد في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.

خرجوا يقولون إنهم يأخذون زمام مستقبلهم بأيديهم، وإنهم لا يعوّلون علينا، ولا ينتظرون منا أن نكبر ونشيخ حتى يواجهوا القدر وحدهم.

تحيّة إكبار وإجلال لكم أيها “السباع” إذ تحلّيتم بالشجاعة الأدبية وخرجتم سافرين باسمين وواثقين، تلعنون جبننا وعجزنا وفسادنا، الذي يعني، من بين ما يعنيه، فساد مستقبلكم.

أنا لا أرى في وقفات هؤلاء اليافعين “تحريضا” ولا “مؤامرة” ولا “تجريبا لفوضى رقمية”، بل أقرأ فيها عودة السياسة إلى معناها البدائي النبيل: مواطنٌ ينطق باسمه، يتقدّم بجسده، ويضع مطالبه في فضاء عام.

حين يهتف الفتى “أنا مواطن”، فهو لا يطلب ترخيصا للوجود، بل يُذكّر الدولة بأنّ العقد الاجتماعي قائم على الحماية لا على الإخضاع، وعلى الإنصات لا على الترويع.

لقد كدنا ننسى، من فرط اعتياد العنف، أن دولة القانون لا تُظهر قوتها في عدد العناصر والعتاد، بل في قدرتها على التهدئة والوساطة واحترام الحقّ في التعبير السلمي.

في ذروة سنوات عجاف، وصف الراحل محمد جسوس جيلا بدا له قادما، بأنه “جيل الضباع”. وكان ذلك تعبيرا قاسيا عن هشاشة منظومة التنشئة ونتائجها.

لكن ما رأيناه اليوم، في عيون فتيان وفتيات خرجوا يطالبون بأبسط حقوق العقد الاجتماعي، هو طلائع “جيل السِّباع”. جيل لا ينهش من يأسه، بل يذود عن حقه؛ لا يستقوي على الأضعف، بل يستجمع شجاعته ليقول للدولة والمجتمع: كفى.

ولئن صحّ أن الدولة عاقلة كفاية ليتسع صدرها لتعبير مواطنيها، فإن عقلها السياسي يُمتحن اليوم في قدرة واحدة: تحويل هذا الغضب النظيف إلى سياسة عمومية نظيفة.

لسنا شهودا محايدين على مشهد عابر. بل نحن طرفٌ معنيّ، بل مُدانٌ بقدر صمتنا، ومُطالب بقدر حبّنا لهذا البلد.

وهؤلاء الشابات والشبان لم يطلبوا المستحيل؛ بل طلبوا ما وعدت به نصوصنا الدستورية وخطبنا الملكية وبرامج حكوماتنا.

طلبوا مدرسة لا تُهين عقل التلميذ، ومستشفى لا يهين جسد أمه، وسوق شغل لا يهين كرامة والده.

لست هنا لأمنحهم صكّ براءة، بل لأستعيد معنى بديهيا: من يحبّ بلده لا يبتزّه بالسكوت، بل يُخاطر بوقته وسمعته ويقف في الساحات ليقول ما يجب أن يقال.

هؤلاء هم جيل السّباع. ومن حقّهم علينا أن نكون في مستواهم. لا بالتصفيق لهم في الليالي ثم تركهم نهبا للصباح، بل بتغيير حقيقيّ يبدأ من الاعتراف، ويمرّ عبر المحاسبة، ويبلغ غايته في سياسة عمومية تُنصت وتُنفّذ.