story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جنيّ فكيك وغول الرباط

ص ص

عاش المغرب هذا الخميس 12 شتنبر 2024، على إيقاع تجربة انتخابية ترقى إلى رتبة العيّنة التي تسمح بقياس مؤشر الزئبق السياسي.
لقد دٌعي الناخبون في 64 جماعة ترابية ودائرتين تشريعيتين، إلى صناديق الاقتراع من أجل التصويت لملء 90 مقعدا محليا ومقعدين برلمانيين.
وبما أن الاهتمام الإعلامي انصبّ، وبشكل منطقي، على تجربتين، واحدة محلية وهمّت مجلس جماعة فكيك، والثانية تشريعية وهمّت مقعدا برلمانيا عن دائرة الرباط المحيط؛ فإننا سنقتصر عليهما في محاولة قراءة واستنطاق نتائج هذه الانتخابات.
الاستحقاقان الانتخابيان همّا مجالات يسيطر عليها الحزب المتصدر للمشهد الانتخابي منذ 2021، أي التجمع الوطني للأحرار، والذي يتولى رئاسة مجلس جماعة فكيك، كما يحوز المقعد البرلماني الذي أعيدت انتخاباته في الرباط.
وبينما تمكّن مرشّح الحمامة من الظفر بالمقعد البرلماني لدائرة المحيط، حقّق حزب صغير انتخابيا، لكنّه يمثّل إحدى آخر قلاع السياسة في هذه البلاد السعيدة، وهو حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، اكتساحا شاملا وفاز بالمقاعد التسعة المتنافس عليها في اقتراع مرتبط بمعركة غاية في النبل والنموذجية، يخوضها سكان فكيك من أجل إرثهم التاريخي في التدبير الذاتي للثروة المائية.
كأننا أمام وجهي العملة السياسية، نرى في أحدهما ما يراد للمغرب أن يكون عليه في حالة انتخابات الرباط التشريعية، وما يمكنه أن يصبح عليه لو تحقّقت شروط المنافسة الحرة والمحترمة لإرادة الشعب في انتخابات فكيك.
نتائج هذه الأخيرة لا تتطلّب عناصر كثيرة من أجل الفهم والتفسير، بالنظر إلى تجسيد التجربة الفكيكية في التمثيل الجماعي، فكرة القرب والتلاحم بين الساكنة وممثليهم. كما تفسّر نتائج الاقتراع بسياق هذا الاقتراع الجزئي، والذي تقرّر عقب استقالة تسعة أعضاء، أي نصف تركيبة المجلس، تعبيرا عن رفض الإذعان للقرار الفوقي القاضي بسحب اختصاص تدبير الماء من يد البنية المحلية التي تشرف عليه منذ عقود.
زيادة على ذلك، يعتبر الطابع الصغير للدوائر التي أجري فيها هذا الاقتراع، وهي دوائر محلية يتنافس فيها المرشحون حول بضع مئات من الناخبين، وللمفارقة، أحد عوامل حماية الإرادة الشعبية من التلاعب والإغراق بالأصوات الفاسدة، في الوقت الذي يعتبر فيه هذا العامل عادة، أحد أسباب سهولة التحكم في الانتخابات من طرف بعض الأعيان وممثلي السلطة.
انتخابات فكيك الجزئية، حين نربطها بالتقدم الواضح الذي حققه حزب الاتحاد الاشتراكي في انتخابات الرباط التشريعية، ونستحضر سابقة مجلس جماعة جرادة الذي فاز به حزب التقدمّ والاشتراكية بعد حراك محلي كبير… كل هذا يشير إلى المسؤولية التي ينبغي لليسار أن يتحمّلها في حمل تطلّعات وآمال المغاربة.
أما انتخابات الرباط التي عرفتها دائرة المحيط، ورغم مؤشرها الواضح والمثير للخوف بشأن نسبة المشاركة التي لم تبلغ حتى سبعة في المئة، فإنها تحتاج إلى قليل من الجهد في القيام بالإسقاطات الرقمية، لمعرفة المنحى الذي أخذه تطوّر النتائج الانتخابية مقارنة باقتراع ثامن شتنبر 2021.
هنا فاز حزب التجمع الوطني للأحرار بالمقعد البرلماني لكنه خسر سياسيا خسارة فادحة، حين لم يتمكّن من تحقيق حتى خمسين في المئة من الأصوات، رغم استعانته بالخزانين الانتخابيين للحليفين الحكوميين، الاستقلال والأصالة والمعاصرة.
ثلاثي الأغلبية الحكومية كان قد حصل في انتخابات 8 شتنبر 2021 على أكثر من 27 ألف و500 صوت، أكثر من نصفها (قرابة 16 ألف صوت) كان من نصيب مرشح حزب التجمع الوطني للأحرار.
بينما في انتخابات 12 شتنبر الجزئية، لم يحصل مرشح حزب الحمامة، بعدما حصل على دعم التكتل الحكومي، سوى على أقل من خمسة آلاف صوت، من أصل حوالي عشرة آلاف صوت معبّر عنها.
وحتى نحذف عامل نسبة المشاركة باعتباره أحد المتغيّرات الأساسية بين الاستحقاقين الانتخابيين، فإن مرشح حزب التجمع الوطني للأحرار حصل لوحده في انتخابات 2021، على ثلث الأصوات المعبّر عنها.
أما إذا احتسبنا أصوات حليفيه الحكوميين، فإن الثلاثي حصل في 2021 على أكثر من 57 في المئة من مجموع الأصوات المعبّر عنها. أي أن هذا الثلاثي خسر قرابة عشرة في المئة من الأصوات.
أما الفائز الأكبر وبدون أي منازع في استحقاق 12 شتنبر الجزئي، فهو حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي حقّق المفاجأة ونال قرابة ثلاثين في المئة من الأصوات، أي قرابة ثلاثة آلاف صوت، بعدما كان في اقتراع ثامن شتنبر 2021 قد حصل على أقل من 2500 صوت. بمعنى أن حزب الوردة ضاعف حصته أكثر من ست مرات، إذا تم توحيد عامل نسبة المشاركة.
أما حزب العدالة والتنمية، ففشل في تحقيق التقدّم الذي أظهره في انتخابات فاس الجزئية، ولم يسعفه حتى استرجاع دعم ذراع الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح، الذي تقول المصادر المحلية إنه وخلافا لانتخابات 2021 ساهم في التعبئة لصالح مرشح المصباح في انتخابات 12 شتنبر الجزئية.
ماذا يعني كل ذلك؟
يعني ببساطة أننا امام نموذجين مصغّرين لمغرب عبّرت عنه انتخابات دائرة المحيط في الرباط، يراد له أن يكون نهبا لمنطق الافتراس السياسي، فينفضّ عنه المغاربة وينصرفون إلى البحث عن خلاصاهم الفردي، تاركين الباب مشرعا أمام جميع أنواع الوحوش للدخول إلي البيت ونهبه وافتراس ضعفائه؛ وآخر جسّدته انتخابات فكيك، لمغرب قد يكون بسيطا وقليل الحيلة و”درويش”، لكنه قادر على صناعة الأمل في تدبير أكثر الخلافات حساسية وحيوية، مثل الخلاف حول موضوع الماء، بأكثر الطرق تحضرا ورقيا وسلمية، أي الاحتفاظ بجميع ضمانات مستقبل أفضل.
بينما كنت أتجول بين الصحف والمواقع محاولا استرجاع تفاصيل الحراك الذي عاشته فكيك وأدى إلى انتخابات جزئية بهذا الحجم، صادفت مقالا أدبيا مطوّلا نشرته مجلة “الثقافة الشعبية” البحرينية، يتحدّث عن الأدب الشعبي في واحة فكيك، من توقيع الكاتب عبد القادر الحجازي.
وأثارتني المقارنة التي قام بها الكاتب بين مفهومي “الجنيّ” و”الغول” في الثقافة الشعبية المحلية. فقد أوضح الحجازي كيف أن الحكاية الشعبية في واحة فكيك لا تبرئ الجنّي من خصائص الشر والعدوانية، لكنها تميل أكثر إلى تفسير عدوانيته تجاه الإنسي بردّ الفعل على عدوانية وأذى سابق، قد يتمثّل في صب الماء الساخن في المواسير والمجاري، أو في مكان مظلم، أو ضرب الحيوانات كالكلاب والقطط والضفادع… مما يضطر الجني إلى ممارسة عدوانيته على الإنسي بالمس أو بالاحتلال والتملك.
ويتأتى دحر شر الجنّي، حسب الموروث الثقافي نفسه، عبر استراتيجية التوافق التي تؤطرها مؤسسة الزواج الذي يجمع الإنسي بالجني ويوحد بينهما من أجل السلام والوئام والخير.
أما الغول في الحكايات الشعبية فيحيل إلى الشر والعدوانية المطلقين. ولا تسمح هذه الحكايات بأي توافق أو إبرام للسلم مع هذا الكائن المخيف، بل لابدّ من اللجوء إلى العدوانية لصد إغارته ليلا ليختطف الأطفال والدواجن…
هكذا هو الخلاف الحاصل في واحة فكيك حول تدبير الماء، كأي جنّي يمكن اتقاء شرّه، ولم لا الانتهاء به إلى التوافق والسلم، بما أن نافذة المشاركة المواطنة وايصال الممثلين الموثوقين إلى مواقع المسؤولية مفتوحة.
أما ما شاهدناه في الرباط عقب انتخابات دائرة المحيط التشريعية، فهو غول مخيف يطلّ علينا بوجهه القبيح، من خلال نسبة المشاركة الهزيلة في منطقة تعتبر مسيّسة للغاية، ومعقلا أساسيا لجميع الأحزاب، إدارية كانت أو غير إدارية.