story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

جنازة الزفزافي.. تشييع اليأس

ص ص

لم تكن جنازة أحمد الزفزافي، ظهر الخميس 4 شتنبر في أجدير، مجرد وداع لرجل أنهكه المرض وحمله لسنوات صعبة. بل كانت مشهدا واسعا، يختزل سبع سنوات عجاف من وجع الريف، ويعيد إلى السطح ملفا ظل مفتوحا منذ خريف 2016.

تدفقت الجموع منذ الصباح إلى البلدة الصغيرة. رجال ونساء، شباب وشيوخ، قدموا من الحسيمة والقرى المجاورة، ومن مدن بعيدة أيضا.

الامتداد البشري غطى الطرقات المؤدية إلى منزل العائلة. سيارات توقفت على جنبات الطريق، ووفود سارت على الأقدام مسافات طويلة للوصول.

في قلب المشهد، بدا الحضور الأمني منظما وهادئا. عناصر السلطة اصطفوا إلى جانب المواطنين، ينظمون حركة المرور والجنازة. مشهد نادر تداخلت فيه الأدوار: الحشود تمشي في صمت مهيب، والسلطة تحرس وترافق، لا لتفريق أو منع، بل لتأمين مرور موكب جنائزي تحوّل إلى حدث وطني.

قبل صلاة العصر، رُفع الجثمان على الأكتاف نحو المسجد العتيق. ردّدت الأدعية جماعيا، وخالطتها أصوات التكبير.

بعد الصلاة، انطلق الموكب نحو مقبرة المجاهدين، حيث سيوارى الجثمان. أحاطت الحشود بالمكان، وتعالت الهتافات: “الشعب يريد سراح المعتقل”، “الحرية للزفزافي”.

الشعارات رُفعت بالأمازيغية والعربية، كلها تصب في مطلب واحد: الحرية.

وسط هذا الزخم، وقف ناصر الزفزافي، الخارج استثنائيا من سجنه في طنجة. اعتلى سطح منزل العائلة، محاطا بالرايات السوداء التي نصبتها والدته منذ اعتقاله سنة 2017. قال بعبارة قصيرة: “نحن أبناء وطن واحد، من الريف إلى الصحراء”. كانت كلماته مباشرة، بعيدة عن لغة المواجهة، ومفتوحة على فكرة الوطن الجامع.

شكر إدارة السجون أمام الجميع، وخصّ المندوب العام بالذكر. اعتبر أن حضوره لم يكن ليتحقق لولا جهودها. بهذا الموقف العلني، أنهى النقاش حول “المبادرات الرمزية” التي كثيرا ما أثيرت، ومنح مسار الانفراج فرصة جديدة.

ظهر الأثر سريعا. في اليوم التالي، تداولت شخصيات سياسية وحقوقية رسائل علنية تعتبر الجنازة محطة فاصلة. بعضهم وصفها بلحظة تاريخية، وبعضهم الآخر أشار إلى أنها يمكن أن تكون بداية انعطافة أخيرة في هذا الملف الطويل. أسماء بارزة في المعارضة، وأخرى من قلب السلطة التنفيذية سابقا، خرجت لتقول علنا: لقد حان وقت الحل.

المأساة الأولى والجنازة الأخيرة

القصة، كما يعرفها المغاربة، بدأت بلقطة صادمة لا تُمحى: محسن فكري، بائع السمك الشاب، يُسحق داخل شاحنة نفايات في قلب الحسيمة، مساء 28 أكتوبر 2016.

لحظات قليلة، وصورة الجسد المحاصر بين الحديد صارت أيقونة غضب. كلمة واحدة صرخ بها أحدهم في الشارع، “طحن مو”، تحولت إلى شعار، تلخص شعورا جماعيا بالمهانة والظلم.

منذ تلك اللحظة، خرج الناس بعفوية، لا يطلبون سوى الكرامة والحق في التنمية. ما بدأ احتجاجا محليا سرعان ما صار موجة وطنية، تُسائل التهميش المزمن، وتكشف جروح العدالة الاجتماعية، وتضع الريف في قلب النقاش العام.

حمل العام 2017 وعودا كبيرة: وفود وزارية إلى المنطقة، مشاريع مُعلن عنها، وبرامج تنموية أعيد التذكير بها. ثم جاءت إقالات غير مسبوقة لوزراء ومسؤولين كبار، في إشارة سياسية واضحة إلى أن التعثر لم يكن صدفة، بل نتاج خلل بنيوي.

لكن هذا الاعتراف، الذي بدا لحظة مفصلية، لم يتبعه في نظر الناس علاج يوازي حجم الأزمة.

في ربيع وصيف السنة نفسها، تغيّر مسار القصة. موجة اعتقالات واسعة اجتاحت مدن الريف، وبلغت ذروتها في 29 ماي حين تم توقيف ناصر الزفزافي بعد واقعة مثيرة للجدل في أحد مساجد المدينة.

من ذتلك اللحظة، انتقل الملف من ساحات الاحتجاج إلى قاعات التحقيق. تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية وثّقت مزاعم سوء المعاملة وانتزاع الاعترافات، وطالبت بمحاكمات عادلة. لكن القطار كان قد وُضع على السكة الجنائية، ولم يتوقف.

في 26 يونيو 2018، صدرت الأحكام التي ستظل علامة فارقة: عشرون سنة سجنا لناصر الزفزافي وثلاثة من رفاقه، وأحكام متفاوتة لعشرات المعتقلين الآخرين. الصدمة كانت قوية كما يقول عبد الهادي بلخياط في إحدى أغانيه.

تتابعت قرارات العفو الملكي لاحقا، فخرج كثير من المعتقلين على دفعات. لكن “النواة الصلبة” بقيت وراء القضبان: ستة من أبرز الوجوه، بينهم ناصر نفسه، ظلوا رموزاً لجرح مفتوح، لا يندمل لا في الريف وحده، بل في وجدان وطني أوسع، حيث ظل الملف عنواناً لتوترٍ معلق لم يجد طريقه إلى الحل النهائي.

الجنازة لحظة كاشفة

حين خرج ناصر الزفزافي لساعات محدودة من سجنه في طنجة، صباح ذلك اليوم، أي الخميس 4 شتنبر 2025، ليلتحق بجنازة والده في أجدير، تحوّل المشهد إلى ما يشبه استفتاء شعبيا غير معلن.

لم يكن الأمر مجرد وداع ابن لوالده، بل محطة حملت رمزية تتجاوز اللحظة الإنسانية. آلاف المواطنين اصطفوا في الشوارع، رددوا شعارات الحرية، وهتفوا باسم ناصر كما هتفوا من قبل للكرامة.

على سطح بيت العائلة، وقف الزفزافي لبضع دقائق. ألقى خطابا مقتضبا، لكن كلماته كانت واضحة: “نحن أبناء وطن واحد، من الريف إلى الصحراء”.

جملة قصيرة بدت كجسر بين ذاكرة جريحة وأفق مصالحة ممكنة. في كلمته أيضا شكرٌ صريح لإدارة السجون على تمكينه من الحضور، وهي إشارة التقطها كثيرون باعتبارها خطوة غير مألوفة في لغة العلاقة بين المحتج والدولة.

وسائل الإعلام المحلية والوطنية تابعت تفاصيل اللحظة: قرار استثنائي، خطاب مقتضب، موكب جنائزي ضخم، ومشاهد اختلطت فيها الدموع بالشعارات. المشهد كله بدا كأنه تلخيص بصري لسنوات من الاحتجاج والقمع، وأسئلة العدالة والإنصاف التي لم تُجب بعد.

لكن الأثر لم يبق محصوراً في الحسيمة والريف. في التعازي الصادرة عن شخصيات سياسية وحقوقية، وفي المواقف المتدفقة عبر المنصات، ظهر بوضوح أن الملف لم يعد قضية “منطقة” محدودة، بل صار سؤالا وطنيا يمس معنى الدولة الاجتماعية وحدود المقاربة الأمنية، ويمتحن قدرة البلاد على بناء وطنية جامعة لا تُقصي أحدا، ولا تقايض الكرامة بالأمن.

رسائل خطاب ناصر

ما ميّز كلمة ناصر الزفزافي فوق سطح بيت العائلة، في لحظة مشحونة بالعاطفة والتاريخ معا، أنه لم يترك مساحة للغموض.

تحدث ناصر بلغة وطنية جامعة لا لبس فيها، أعلن انتماءه للوطن كله من الريف إلى الصحراء، وشكر المؤسسة السجنية صراحة، ومنح والده صفة رمزية حين نعته بـ“أب الأحرار والحرائر”.

بهذا الموقف البسيط والواضح، جُرّد خطاب التخوين من آخر مبرراته، وأُحرجت الرواية التي طالما صوّرت الحراك كخطر انفصالي. أُعيدت الكرة إلى ملعب الدولة، لتبادل الإشارة بإشارة، والخطاب بالفعل.

سرعان ما تتابعت ردود الفعل من سياسيين وحقوقيين، الذين تحدثوا عن “منعطف أخير” ممكن للملف. لم يكن الأمر إعلان حلٍّ وشيك، لكنه كشف عن استعداد اجتماعي واسع لطي الصفحة، إن التقط القرار السياسي اللحظة، وأحسن تحويل الرمزية إلى واقع.

الدرس المستفاد

لم يكن المشهد الذي جمع جنازة أحمد الزفزافي بخطاب ابنه ناصر مجرد وداعٍ رمزي، بل محطة تلخص دروساً ثقيلة تراكمت طيلة ثماني سنوات.

أول الدروس أن الحراك بدأ اجتماعياً بامتياز، قبل أن يُزَجّ به في خانة الأمن. مطالبه كانت بسيطة وملموسة: مستشفى للأورام يخفف عن المرضى، جامعة توقف نزيف الهجرة الداخلية، فرص عمل تحفظ الكرامة، وتخفيف القبضة الأمنية الثقيلة، ثم ربط الريف بباقي التراب الوطني عبر مشاريع البنية التحتية. تلك كانت لغة حياة يومية، تحوّلت بفعل سوء التدبير إلى تهمة سياسية. فكان الثمن سنوات ضائعة، وزمن طويل من الريبة والإنهاك.

الدرس الثاني أن الدولة اعترفت، ثم تراجعت. لحظة إقالة وزراء ومسؤولين سنة 2017 بدت كصفحة نادرة من ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكنها لم تكتمل بآلية شفافة تحاسب وتعيد بناء قنوات الثقة. ما لبث ميزان القوة أن رجع إلى “منطق السيطرة”، فضاعت الفرصة، وتضاعفت كلفة الانتظار.

أما الدرس الثالث فجاء من الإعلام والأحزاب. جزء من الصحافة انخرط في شيطنة المحتجين، فيما تعرّض صحافيون آخرون للملاحقة لأنهم غطوا الحدث بعيون مفتوحة. الأحزاب بدورها غابت عن لعب دور الوسيط الطبيعي، تاركةً فراغاً ملأته لغة الشك والقطيعة. حين يغيب الترجمان بين الدولة والمجتمع، تسود الروايات المتناقضة، وتتآكل الثقة.

الدرس الرابع والأعمق أن القضاء تحمّل وزر السياسة. الأحكام الثقيلة التي صدرت في ملف اجتماعي خلّفت ذاكرة جريحة لا تندمل بسهولة. تقارير حقوقية موثوقة دوّنت مزاعم تعذيب وانتزاع اعترافات، وأشارت إلى اختلالات إجرائية جدّية. تجاهل هذه العناوين لا يمحوها من الذاكرة، بل يضاعف الحاجة إلى معالجة مؤسسية صريحة وشجاعة، تتجاوز الإنكار البارد إلى إصلاح عميق.

تشييع اليأس

لقد عادت جنازة أحمد الزفزافي لتكشف أن ملف الريف لم يعد تفصيلا محليا، ولا مجرد صفحة عالقة في ذاكرة احتجاجية.

إنه سؤال وطني بامتياز، يُمتحن فيه معنى العدالة والكرامة، وحدود المقاربة الأمنية، وإمكان بناء عقد ثقة جديد بين الدولة والمجتمع.

لحظة التشييع، بما حملته من صور إنسانية ووطنية، وضعت الجميع أمام مسؤولية مشتركة: أن يُطوى الملف بكرامة، وأن تتحول الإشارات الرمزية إلى قرارات فعلية. لأن المغرب، وهو مقبل على تحديات داخلية وخارجية ثقيلة، لا يحتمل استمرار نزيف مفتوح في خاصرته.