story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ثورة الملك والشباب

ص ص

أعلن شباب “جيل Z” تعليقا تكتيكيا للتظاهر ينتهي يوم غد الخميس 09 أكتوبر 2025.

توقف قصير لإعادة التنظيم قبل خطاب ملكي مرتقب يوم الجمعة في افتتاح السنة التشريعية الجديدة.

تبدو هذه الخطوة في ظاهرها إجرائية، لكنها في جوهرها إشارة سياسية ناضجة. هذه موجة شبابية تعرف ما تريد، وتتعلّم تدر يجيا كيف تدير زخمها، والأهم أنها تحسن محاورة الفاعل المركزي في الدولة، وهنا بيت القصيد.

فهذا الحراك ليس نقيضا للمؤسسة الملكية، بل هو أقرب ما يكون إلى طاقة اجتماعية تغذّيها وتخدم مشروعها، لأنّها تضخ دما جديدا في شرايين سياسة اشتكى من اضمحلالها الملك نفسه في مناسبات عديدة، بعدما أُنهكت بتجريف طويل، وإعلام جفّف حتى صار صدى باهتا، ووسائط تمثيل صارت ثقوبا في جدار الثقة بدل أن تكون جسورا بين الدولة والمجتمع.

منذ خروجه الأول إلى الشارع، قدّم لنا هذا الجيل خدمة لا تقدر بثمن. فقد أعاد ترتيب الأجندة الوطنية من البداية إلى النهاية. ولم يسقط في فخ الشعارات المعلّبة ولا المتاهات الايديولوجية؛ بل تبنى لغة مباشرة تطالب بالصحة والتعليم والشغل والكرامة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وعندما يختار هؤلاء أن يوجّهوا رسائلهم إلى الملك رأسا، فذلك لا يُختزل في مجرّد “رهان على التحكيم”، بل يعكس وعيا بمركزية المؤسسة الملكية بوصفها الضامن لوحدة الدولة واستمرارية الإصلاح.

هذه المقاربة لا تضعف الملكية ولا تهدّدها ولا تضغط عليها كما تصوّر البعض؛ بل تقوّيها. فهي تعرّي أعطاب الوسائط وتضع أمامها، وأمامنا جميعا، حقيقة مؤلمة وبسيطة، مفادها أنك حين تفرغ السياسة من مضمونها، تُرغم الدولة على مواجهة الشارع بلا “إيرباك”.

لقد حذّر العقلاء طويلا من التجريف الممنهج للحقل الحزبي والنقابي، وتخريب المجال العمومي الإعلامي، لأنه لا يقوّي الدولة، بل يضعفها؛ ويجرّدها من آليات الوساطة ويحوّل كل ارتجاج اجتماعي إلى صدمة مباشرة على وجهها.

وما فعله “جيل Z” أنه وضع المرآة في المكان الصحيح، وبأسلوب مدني غير مسبوق، عنوانه وقفات سلمية، وتنظيم ذاتي، ورفض واضح للعنف، وتمييز أخلاقي صارم بين المحتجّ السلمي والمخرّب.

هذه هي اللغة التي تحتاجها الدولة لتعيد بناء تعاقدها. أي لغة مواطنة لا تخاصم الدولة، بل تحاسبها؛ ولا تسقط المؤسسات، بل تطالبها بأن تنهض إلى مستوى الدستور وروحه.

بهذا المعنى، فإن حراك الشباب لا يهدّد المؤسسة الملكية، بل يمنحها لحظة اصطفاف اجتماعي نادر. هذا شباب يرى في الملكية ضمانة للمراجعة والتصحيح، ويسلم لها بموقعها الجامع، ويطلب منها أن تطلق يدها في ترتيب البيت من الداخل.

إنّها فرصة لبناء “ثورة ملك وشعب” في نسخة معاصرة. ثورة عقول وميزانيات وأولويات، تغلق الفجوة بين “مغربين” حذّر منهما الخطاب الملكي الأخير نفسه. مغرب يركض في مشاريع كبرى، وآخر يتعثر عند باب مستوصف ومدرسة.

لا يقصد هذا الخطاب كبح الطموح الوطني في تنظيم المواعيد الكروية الكبرى أو تشييد البنيات الحديثة، بل المقصود أن نثبت حسابيا وأخلاقيا أن درهما في الملعب لا ينتزع من سرير في المستشفى ولا من مقعد في القسم.

هنا يتقاطع نداء الشارع مع جوهر الرؤية الملكية المعبّر عنها بواسطة النموذج التنموي الجديد. أي دولة اجتماعية تعيد الثقة وتقلّص الفوارق وتوحد الإيقاع.

ولكي تتحوّل الهدنة إلى ممر إصلاحي، يلزمنا اعتراف شجاع بأصل الداء: لم يكن مصدر الاختناق هو هذا الاحتجاج الشبابي، بل ذلك الفراغ السياسي الذي سبق الاحتجاج.

الأحزاب التي أضعفت بدل تأهيلها، والإعلام الذي أسكت بدل تطويره، والنقاش العمومي الذي تدفّق عبر المنصّات لأن الأبواب أغلقت في القنوات العمومية والإعلام المستقل.

هنا يمكن للملكية أن تطلق ورش استعادة السياسة إلى أهلها، وردّ الإعلام إلى مهنته، والوساطة إلى وظيفتها. نحن لا نحتاج “زينة” مؤسساتية، بل آليات ملموسة ترى وتحَسّ، وهذا يمرّ عبر خطوات حتمية:

• الإقرار بقاعدة واضحة في التعامل مع التجمعات السلمية. أي تصريح يُخبر السلطات ولا يقيّد، ومنع وتفريق لا يتم إلا عند وجود خطر محدق، وبوسائل متناسبة وخاضعة لمساءلة لاحقة.

• إطلاق مسار جديدة للعدالة والإنصاف، من خلال الإفراج عن كلّ من لم يتورّط في عنف مجرّم، واعتقل على خلفية مشاركته في احتجاجات اجتماعية أو سياسية، والتحقيق الشفاف في كل إصابة أو وفاة، وملاحقة كل اعتداء موثّق، أيا كان مرتكبه.

• فتح قناة مؤسسية دائمة للشباب، من قبيل مجالس شبابية جهوية، ومختبرات سياسات عامة بالتعاون مع الجامعات، تنقل طاقة “ديسكورد” من التجمهر الآني إلى صناعة اقتراحات قابلة للتنفيذ والمتابعة.

• إعادة تأهيل المنظومة الإعلامية العمومية والخصوصية. لابد من القطع مع زمن المونولوغ، وإعادة الكلمة إلى المهنيين والجمهور، بمنابر تحاور بدل أن تلقّن، وتحاسب بدل أن تصفّق، حتى لا يظل الشارع منصّة التعبير الوحيدة.

كل المؤشرات تقول إننا أمام جيل “وليّ العهد. وحين يخرج الشباب الذي ينتمي إليه مولاي الحسن إلى الشارع بهذه الأخلاق وهذه الأولويات، فهو عمليا يهيّئ الأرضية لانتقال هادئ في الشرعية الاجتماعية: من مواطنة محبَطة إلى مواطنة فاعلة، ومن صمت مرّ إلى قول مسؤول، ومن “سرعتين” تمزّقان الجسد الوطني إلى إيقاع واحد.

ولأن السياسة لا تحتمل الفراغ، فالمطلوب قبل خطاب الجمعة هو خطوات صادقة تسمّي الأشياء بأسمائها. لقد أسيء التعامل مع السلمية في بدايات الاحتجاج، وهناك فجوات فادحة في الصحة والتعليم والتشغيل، ولابد من تعديل حكوميّ شجاع يعيد الثقة ويعلن الأولويات بآجال ومؤشرات قابلة للقياس.

هذه كلّها حقائق لابدّ من الاعتراف بها، وفي المقابل، مطلوب من الشباب أن يصونوا “نظافة” مطالبهم من كل تلوّث أو انحراف أو “ركوب” ممكن كانوا مشاركين في إنتاج العطب.

بهذه الصيغة فقط يتحوّل التوقف التكتيكي إلى انطلاقة استراتيجية. ملكية تمسك بدفّة الإصغاء والفعل، وشباب يدخلون السياسة من بابها الأسمى: باب الأخلاق والجدوى.

عندها فقط لا يصبح يوم الخميس موعدا لتجريب ضغط الشارع، بل لولادة دولة تعلن أن الإصلاح خيار لا شعار، وأن “ثورة ملك وشعب” ليست ذكرى تستعاد في كل صيف، بل ممارسة تتجدّد.

هذا هو المعنى العميق لما يحدث اليوم. لسنا على هامش التاريخ، بل على عتبته. وإذا أحسنّا التقاط الإشارة، فسنبني مع “جيل وليّ العهد” عقدا اجتماعيا جديدا يقلّص هوّة ال”مغربين” ويعيد لنا بلدا واحدا بإيقاع واحد.. لا بسرعتين.