story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ثلاثية الساسي.. الغموض والتشدد والخوف!

ص ص

في آخر حلقة من برنامج “ضفاف الفنجان” الذي نقدّمه عبر المنصات الرقمية لهذه الصحيفة، استضفنا السياسي والأكاديمي محمد الساسي، في جلسة دامت قرابة خمس ساعات، ضمنها أكثر من ثلاث ساعات من التسجيل، وقبلها تطلّب التحضير عددا من اللقاءات والنقاشات.
تحدّثنا في كلّ شيء، تقريبا، وهو ما يندرج ضمن تصوّرنا لهذا البرنامج، الذي لا يرمي إلى توثيق “شهادات على العصر” كما يعلّق البعض، أو إعادة رسم مسارات الضيوف، أو استحضار الماضي… بل نقوم فيه بعملية توليد للمعنى، تفضي إلى فهم أعمق وأوضح للحاضر، من خلال وضعه تحت أضواء الخلفية الفكرية والمسار الشخصي للضيف. أي أننا نحاول قراءة فتجان الحاضر بعيدا عن الانطباعات والضغوط الراهنة، سعيا منا إلى فتح مسارات تؤدي إلى مستقبل أفضل.
عدنا مع الساسي إلى جميع مراحل التطوّر السياسي للمغرب منذ الاستقلال، منطلقين من كتابات سابقة قام فيها بتحقيب للتاريخ المغربي الراهن، بناء علي تطوّر الحلم الديمقراطي.
ويمكن القول بناء على تجربة الحوار المعمّق التي عشناها مع محمد الساسي، أن الرجل الذي خبر الأوضاع السياسية لبلادنا، من موقعي الفاعل السياسي والدارس الأكاديمي، يعتبر المرحلة الراهنة ثاني أسوأ فترة تمرّ على المغرب منذ الحقبة التي سمّاها “الديمقراطية المعلّقة”، والتي تبدأ بإعلان حالة الاستثناء في 1965، ولا تنتهي إلا مع انطلاق ما يسمى بالمسلسل الديمقراطي عام 1977.
نعم. مرحلتنا الراهنة هي في تقدير هذا الخبير البعيد حاليا عن أي موقف انفعالي، بحكم التجربة والسن والرهانات الرمزية التي يحملها موقعه الحالي كفاعل سياسي (عبر حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي)؛ أسوأ حتى من مرحلة الثمانينيات.
ضيفنا تساءل خلال مقابلته معنا ما إن كان “الهامش الديمقراطي” الذي كانت تلك المرحلة تسمح به موجودا حاليا؟ في تساؤل هو أقرب إلى الاستنكار منه إلى الاستفهام.
وفي تعبير يبدو أنه نتيجة تأمل طويل، يقول الساسي إن ما يطبع المرحلة الراهنة من التاريخ السياسي للمغرب، هو سيادة ثلاثية عنوانها الغموض والتشدّد والخوف. وهذا تعبير يخرجنا من دائرة الخطاب الانطباعي، ليمنحنا أدوات عملية تجسّد ما تنطوي عليه المرحلة الراهنة من سلبيات.
وقبل أن نشرح مضمون هذه الثلاثية، لابد من الإشارة، من باب الأمانة والموضوعية، أن الساسي حرص على تسجيل إيجابيات قال إنها قائمة ولا يمكن إنكارها.
ايجابيات قال إنها تتمثل في أمور مثل مدونة الأسرة، وما تحقق للأمازيغية، وما يسم بعض الخطب الملكية مثل خطاب “أين الثروة؟” أو عندما قال الملك إنه لا يجد أثر التنمية على أرض الواقع… ثم هناك التطور الذي حصل على مستوى البنيات التحية، والانتظام الانتخابي، ومقترح الحكم الذاتي في الصحراء، واختيار رئيس الحزب الأول في الانتخابات لترؤس الحكومة، إلى جانب ما سمّاه الساسي “تبصّر” الخطب الملكية فيما يتعلق بقضية التعامل مع الجزائر…
أما الثلاثية التي تجسد الجانب السلبي من المرحلة الراهنة، فتتمثل في كل من:
الغموض: ويقصد به الساسي، وأنا أتحدّث هنا انطلاقا من خلاصات النقاش الذي جمعني بالساسي قبل وأثناء إجراء المقابلة، تلك الصعوبة التي بات المراقب يجدها في قراءة الوضع السياسي المغربي وتفسيره ومحاولة استشرافه. ويشدّد الساسي على أن المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي كان يتوفّر دائما على عناصر كافية لقراءة الأوضاع، حتى في زمن المعارضة والصراع المرير مع الحسن الثاني.
ويربط الساسي بين الوضوح النسبي السابق، وما كان يحرص عليه الملك الراحل الحسن الثاني من قنوات تواصل دائمة مع الجميع، وإقامته توازنا دقيقا داخل الدولة، بين الأطراف السياسية وبين الأجهزة ومراكز النفوذ…
ويستدل الساسي على ذلك بواقعة يقول إنها حصلت منتصف التسعينيات، حين استدعى الملك كلا من وزير داخليته القوي، إدريس البصري، المشرف على تنفيذ حملة التطهير الشهيرة، وإدريس جطو، ممثل الباطرونا والرأسمال الخاص، وطلب منهما خوض مواجهة شبيهة بما نشاهده في برنامج “الاتجاه المعاكس”، كي يختبر حجج ومبررات كل من موقف البصري الداعم للحملة وموقف جطو المتحفظ تجاهها.
كما يعيد الساسي حالة الغموض الحالية، إلى جانب غياب قنوات التواصل، واختلال التوازن بين الفاعلين السياسيين، إلى افتقاد ذلك التوازن الذي كان قائما بين الأجهزة الأمنية للدولة، والذي جعل الدرك الملكي يتولى الإشراف على التحقيقات في ملف المسؤول الأمني، الشهير باسم الحاج ثابت، في مقابل إشراف المؤسسة الأمنية نفسها التي ينتمي إليها الضابط الذي قتل شخصين بسلاحه الناري الوظيفي صيف العام 2019، على التحقيقات.
التشدد: ويحرص الساسي هنا على إضافة وصف “الاستباقي” ليشير إلى عمليات القمع والاعتقالات والمحاكمات التي حصلت في السنوات القليلة الماضية، والتي قال إنها جاءت لمنع تكرار تجارب الحراك الاجتماعي.
ويوضّح الساسي أن هذا التشدد، هو سلوك استباقي يعني القمع بأقسى الدرجات الممكنة كي لا تعود حركة شبيهة بحركة 20 فبراير، ولا تلتقي هذه الديناميات، أي المقاطعة والاحتجاج في الملاعب والحراكات.
ويشير الساسي إلى ضعف فعالية هذا الأسلوب، بعد ظهور أشكال جديدة من الاحتجاجات، مثل حملة المقاطعة الشهيرة لسنة 2018، والتي استهدفت ثلاثة من أكبر الشركات التجارية في السوق المغربي، إلى جانب هتافات و”تيفوات” جماهير كرة القدم، والتي طوّحت بكل الخطابات والسرديات الرسمية وشبه الرسمية حول التطبيع مع إسرائيل، ليتساءل الساسي: ماذا سنفعل في هذه الحالة؟ هل سنعتقل الجمهور؟
أما ثالثة الأثافي، فهي الخوف. وعندما سألت الساسي “خوف من؟ وممن؟”، قال إنها حالة “كلشي خايف من كلشي”. وفي إطار هذا الخوف، وضع الساسي تطبيع العلاقة مع إسرائيل. وأوضح ضيفنا أن هذا التطبيع بدأ من الخليج، حيث تخاف الأنظمة من إيران من جهة، ومن قابلية اشتعال الأوضاع الداخلية من جهة أخرى.
وتساءل الساسي بالنسبة للحالة المغربية: “أليس التعاون الأمني الذي أدى إلى التطبيع السياسي في المغرب محرجا للنظام؟ وهل استيراد التكنولوجيا يمكنه أن يحمي نظاما من السقوط؟”، ليجيب بشكل فوري: “لو كان الأمر كذلك، لنجت دول كبرى لها أجهزة استخبارات وتكنولوجيا… وهي الدول الشيوعية التي تساقطت بعدما كانت تحصي أنفاس المواطنين ليل نهار… إسرائيل يجب أن ننهي علاقتنا معه”، ملخصا حديثه بالقول إن التطبيع هو خوف من المستقبل.
وإذا اعتبرنا هذه الثلاثية لوحة قراءة للوضع المغربي الراهن، وأردنا الانطلاق منها لاستشراف المستقبل بالشكل الذي يجنّبنا المخاطر والأهوال التي تطلّ علينا برأسها في السياقين الإقليمي والدولي الحاليين، فسوف لن تخرج الوصفة عن التالي:

  1. تبديد الغموض باستعادة التوازنات الضرورية في الحقل السياسي وداخل دواليب الدولة. والبداية من رفع اليد عن الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة، ورفع شعار “دعه يعمل دعه يمرّ” بما تعنيه من شفافية ومنافسة حرة في السياسة والاقتصاد، وإعمال قاعدة “السلطة توقف السلطة”.
  2. إلغاء العمل بأسلوب التشدد لأنه غير منتج، بل مضرّ ومدمّر. والدليل هو هذا الانفراج الكبير والفرحة العارمة اللذان خلّفهما العفو الملكي عن مجموعة من الصحافيين والنشطاء والمدوّنين، وما تلاه من شبه إجماع على ضرورة استكمال المسار بالعفو عمن تبقى، وخاصة معتقلي حراك الريف والنقيب والوزير السابق محمد زيان. فالتشدد غير مجد كما هو الحال مع المقاطعة وشعادات الملاعب.
  3. تبديد الخوف المهيمن على النفوس، لأنه يعطّل الطاقات ويجمّد الديناميات وينشر الشلل في أوصال البلاد. لا يمكن أن نواصل الرهان على الصورة التي ظهر بها محمد زيان مؤخرا لحظة إدخاله معتقلا إلى المحكمة، والتي كانت عنوانا لسمة الخوف الحالية، بل لابد من تعميم صور الفرح التي ظهر بها بوعشرين والريسوني والراضي والعلمي… ليلة عيد العرش الأخير.

يمكنكم قراءة الحوار الكامل لمحمد الساسي في العدد الأخير من مجلة “لسان المغرب”.