‘تمغربيت’: إحساس بالانتماء أم مزايدة أيديولوجية؟
لنعترف منذ البداية أن المواطنة والانتماء قيمتان رئيستان يفتخر بهما كل إنسان مهما كان البلد الذي يعيش فيه. ولنتفق أن الإحساس بهاتين القيمتين لا يختص بفرد دون آخر، أو جماعة دون أخرى، أو كيان كيفما كان نوعه دون غيره من الكيانات الأخرى داخل الوطن نفسه. ولا يحق لأي كان أن يميز نفسه عن الآخرين بميزة هاتين القيمتين، أو يضع نفسه فوق القانون أو فوق الآخرين بسببهما، أو يخول لنفسه أن ينزعهما عن الآخرين أو يحرمهم منهما. وهذا يعني أن قيمتي المواطنة والانتماء تمثلان إحساسا بديهيا يسري على الجميع، ولا يستثني أحدا، مهما كان جنسه أو عرقه أو دينه أو فكره، الخ.
لكن لماذا يوظف البعض ‘تمغربيت’ بصورة طاغية في خطاباتهم، خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي؟ وقبل ذلك، كيف ظهرت هذه الخطابات، التي تنزع في بعض الأحيان إلى التبجح بقيمتي المواطنة والانتماء، وإلى سحبهما عن آخرين؟
يبدو أن الفكرة ليست قديمة، بل هي وليدة التحولات العامة التي شهدتها العقود القليلة الماضية. قبل نحو عشرين سنة، صدر كتاب جماعي باللغة الفرنسية، تساءل أصحابه عن معنى أن يكون الإنسان مغربيا. وهو يحمل توقيعات كتاب مغاربة مقيمين في المهجر، خاصة فرنسا. في الواقع، لم يسبق أن طرح المغاربة هذا السؤال، في أي مرحلة من مراحل تاريخهم الطويل. لم يكن الإنسان المغربي من قبل يشهر بطاقته الانتمائية، فيما أعتقد، إلا إذا كان خارج بلده. لكن الواقع يختلف اليوم، إذ بات كثيرون يشهرونها في وجه أبناء جلدتهم في الداخل، في ما يشبه التخوين أحيانا أو الانتقاص من منسوب الانتساب إلى الوطن. ومن هنا ينبع الشق الأول في عنوان هذه المقالة الذي يؤكد على أن ‘تمغربيت’ تمثل إحساسا بالانتماء يعاش يوميا بشكل طبيعي، ولا تقتضي أي ضرورة- مهما كانت- الإعلان عنه أو المجاهرة به في الخطابات والمنشورات السياسية والإعلامية أو غير ذلك.
في المقابل، انتهى طرح السؤال حول معنى الانتماء إلى المغرب، مع مرور الزمن وبفعل الطفرة التكنولوجية، إلى تداول أفكار مبتذلة وواهية حول هذا الإحساس الإنساني البديهي النبيل. أخذت الفكرة ترتبط، شيئا فشيئا، بتعبيرات قومية ضيقة تتخذ طابع شوفينية أمازيغية أو عروبية، أو صبغة دينية أو جماعية مغلقة.
كما ترتبط بردود فعل متسرعة ترى في ‘تمغربيت’ تجسيدا لخصم أو عدو خارجي يهدد كياننا بالزوال. وأسوأ ما في هذه التعبيرات ربط قيمتي المواطنة والانتماء بمباراة أو منافسة في كرة الاقدم، يمثل فيها الفوز انتصارا لهما، والهزيمة سقوطا أو انهيارا لهما، فيما ينبغي أن ينظر إلى بعض الأنشطة الرياضية مثل هذه، بوصفها مناسبات للتواصل بين الشعوب وانفتاح بعضها على بعض، لا فرصا لتأجيج الخصومة والصراع. وربما تكون هذه التعبيرات المفلسة كلها هي التي دفعت الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي إلى تأليف كتابه ‘الحداثة والهوية’، بغية التنبيه إلى خطورة تجسيد الانتماء في وحدات تبسيطية تختزل كامل قيمه في هذه الأفكار المبتذلة والواهية.
وما يزال السؤال أعلاه يفرز تمثلات سيئة لمسألة الانتماء إلى المغرب، انتهت في بعض تجلياتها الغثة إلى ضرورة ارتكاز تواصل المغاربة وتعليمهم على الدارجة، بوصفها لغة المغاربة الأم. وتناست تلك الدعوة، التي لاقت رواجا إعلاميا نشيطا في وقتها، بل واهتماما أكاديميا لدى الفئة الأكاديمية صاحبة السؤال أعلاه، جماعَ اللغات الأخرى التي يتواصل بها المغاربة ويعبرون بها عن ذواتهم، وهي جزء من هويتهم المركبة والجامعة وحضارتهم التاريخية الممتدة.
لقد قامت هذه التمثلات مثلا على شيطنة العربية الفصحى، بوصفها لغة متجاوزة أو مقدسة أو مستوردة، وعلى الحط من شأن الأمازيغية، بوصفها لهجة أو لغة أقلية. لكنها لم تسائل لغة المستعمِر القديم التي لم تفقد الأمل في أن تصوغ ‘تمغربيت’ وفق ما تبتغيه مصلحة فرنسا، ولا أثرها السلبي في تشظي الذات المغربية على امتداد العقود.
متى سنخرج من هذه النقاشات المؤدلجة العقيمة التي هوت بانتمائنا الفردي والجماعي إلى الحضيض؟ متى سنعيش مغربيتنا كما عاشها أجدادنا، وأن نحياها بشكل متساو، بلا مزايدات، أو اتهامات، أو غايات مبطنة ترى في توظيف قيمتي المواطنة والانتماء طريقا سهلا إلى الاستفادة من كعكة ما؟ لا بد من القول، ختاما، إن ‘تمغربيت’ كلٌّ لا يتجزأ، وهي إحساس شامل يشعر به الجميع، ولا يقبل التوظيف السياسوي والاستغلال الأيديولوجي الضيق.