تقنين الكيف وتكييف المدرسة
ما كنا نخشاه وقع فعلا وبات حقيقة: الأزمة التي عاشتها المدرسة المغربية طيلة الشهور الماضية في طريقها إلى التبدد تدريجيا، لكن الضحية الكبرى هي التلميذ. كل الدروس والتمارين والاكتشافات التي صممها مختصون في التربية والتعليم، باعتبارها ضرورية لينشأ الانسان المغربي بشكل سوي ويكون قادرا على مواجهه أعباء الحياة والمساهمة في الجهد الوطني الجماعي للبناء والتطور، كل ذلك شطب بجرة قلم تحت تعنوان “التكييف”.
كل تلك الحصص الدراسية والأطنان من الكتب المطبوعة والدفاتر التي دفعت فيها الأسر “دم جوفها”، وكل تلك الأنهار من الحبر والأقلام والسبورات والطباشير… وكل تلك الأيام من العمل مدفوع المقابل، وتلك المدارس والأقسام والأطر والإداريين والأعوان… كل ذلك يمكن الاستغناء عنه بكل سهولة.
لم نكن نعلم أن كل ما تحتاجه مشاكلنا وينهي خصاصنا ويصلح أحوالنا هو مجرد “تكييف”.
انتظرنا طويلا أن تهدأ العاصفة وينتهي الكابوس ويعود الأطفال إلى الأقسام، وكلنا “عشم” في توافق الأطراف حول مصلحة التلميذ مثلما توفقوا على مصالح أخرى مشروعة، لكن النتيجة مجرد تكييف.
نعم تكييف البرامج الدراسية “لجميع المستويات التعليمية، من أجل إكمال المقررات الدراسية، وتعديل تواريخ إجراء الامتحانات الوطنية والجهوية والإقليمية الموحدة، وذلك لإنقاذ الموسم الدراسي بعدما توقفت الدراسة لأسابيع بسبب الإضرابات”، هكذا حرفيا تقول مذكرة رسمية لوزارة التربية الوطنية، تتضمن قرارا ب”تمديد” السنة الدراسية بأسبوع إضافي بالنسبة للأسلاك الثلاثة؛ أي نعم، أسبوع كامل سيطرح فيه الله البركة ل”تمكين المتعلمات والمتعلمين بالمستويات الإشهادية من غلاف زمني يتيح لهم إكمال البرامج الدراسية للمواد الإشهادية في ظروف بيداغوجية وديداكتيكية ملائمة”.
كيف سيتم هذا التمكين السحري آ سيادنا؟ ب”التركيز في البرنامج الدراسي على التعلمات الأساس بالمستوى الدراسي الحالي، واللازمة كمُدخلات أساس خلال المستوى الدراسي الموالي، وتعزيز آليات الدعم التربوي من أجل مساعدة التلميذات والتلاميذ على تثبيت مكتسباتهم، واعتماد المرونة في برمجة مواعيد الامتحانات الإشهادية، وتأجيل موعد إجراء الامتحانات الموحدة الوطنية والجهوية والإقليمية بأسبوع…”
هذا ما كان.
الآلاف من أبناء المغاربة الذين قضوا الشهور الثلاثة الماضية بين تشرد وإهمال، سيجلسون يوم 10 يونيو المقبل (بدل 3 يونيو الله يكثر خير الحكومة)، أمام نفس ورقة الأسئلة لاجتياز امتحان البكالوريا جنبا إلى جنب مع تلاميذ آخرين، أكثر حظا الله يزيدهم، كانوا خلال الفترة الماضية نفسها يجلسون يوميا أمام أساتذة داخل فصولهم الدراسية لتلقي الدروس والشروحات والقيام بالتمارين… وعلينا أن نغمض أعيننا على مبادئ المساواة والانصاف وتكافؤ الفرص، ونضع “عين ميكا” فوق أبصارنا.
هل يعقل أننا ما زلنا قادرين على الذهاب إلى مثل هذا الاستحقاق المصيري في حياة بلادنا ومجتمعنا، دون أن نخشى قيام صاحب القرار التنفيذي والإداري، المدفوع غريزيا وطبيعيا بإخلاء ذمته وترقيع بكارته، ب”تكييف” الامتحانات نفسها بالشكل الذي يجعلها تفضي إلى نتائج ومعدلات نجاح تغطي الشمس بالغربال؟ هل يعقل أن حقوق ومصالح المغاربة الحيوية تدبر بهذا التسيّب والاستباحة والاستهتار؟ أية مصداقية وأية قيمة ستكون لشهادات أبنائنا والعالم كله تابع فصول سنة سوداء لم يدرسوا نصفها الأول على الأقل؟
أعلم أن كلا من الحكومة والأساتذة المضربين يستطيع أن يمطرنا بوابل من المبررات ليدفع عنه التهمة. للحكومة أن تقول إنها لم تمنع أحدا من دخول الأقسام ولم تقصر في توفير المدارس والطاولات والأساتذة والأستاذات، وإن ما وقع سببه قوة قاهرة. ويمكن للأساتذة أن يقولوا إنهم لم يقوموا سوى بالدافع عن حقوقهم المهضومة وإن الحكومة اقتطعت منهم أيام الإضراب وبالتالي لا دين لهم تجاه أحد.
نعم هذه محقة وأولئك على صواب، لكن لا فائدة من هذا المبرر ولا ذاك. النتيجة أننا نمضي نحو عام ضائع على السواد الأعظم من أطفال المغرب. سوف لن ننتظر مؤشرات جديدة ولا تقييمات تخبرنا بما نعزفه أصلا. ما يقع اليوم للمغرب أسوأ مما وقع خلال الجائحة ومما خلفه الزلزال. نحن اليوم أمام جائحة عامة وشاملة، وأخطر ما فيها أننا ننكرها ونتجاهلها ونتصرف كأن شيئا لم يحصل.
على أحد ما أن “يوقف البيضة في الطاس” ويقول اللهم أن هذا منكر.
تعليم أبناء المغاربة الفقراء البسطاء ليس ترفا ولا خدمة إضافية قد تُؤدى وقد تُحجب. نعم الأمر يعني أبناء المغاربة الفقراء والبسطاء، وإذا كانت المدرسة العمومية تضم قرابة 85 في المائة من أبناء المغاربة، فليس لأنها تتمتع ببقية من ثقة، بل لأن 85 في المائة من المغاربة فقراء وبسطاء.
أفضل ما حصل في كل هذه القصة أن من حرروا المذكرة الأخيرة الخاصة بترقيع السنة الدراسية، اختاروا كلمة “التكييف”. فاستيعاب ما يجري والحفاظ على الاتزان وهدوء الأعصاب، يستدعي منك أن “تتكيّف” بالفعل وبالمفهوم المغربي الدارج. ألم نقم بتقنين زراعة وتصنيع “الكيف”؟ فلنتكيّف جميعا ولتكيّف المدرسة أيضا.