تفاوض بالصواريخ

ما يجري اليوم بين إيران وإسرائيل لا يمكن وصفه بحربٍ بالمعنى الكامل للكلمة، رغم أن ما جرى صباح الجمعة 13 يونيو 2025 رهيب ومدمّر ووصفناه في هذا الركن ب”الهلاك” الذي زار إيران؛ كما لا يمكن تقزيمه إلى مجرد تبادل للضربات.
هو، في جوهره، تفاوض بلغة الصواريخ بعدما فشلت لغة الحوار، مفاوضات تُدار من الجو، تُملى فيها الشروط بالنار، وتُختبر الإرادات من خلال حجم الدمار وحكمة الكف عن التصعيد في اللحظة الأخيرة.
نحن أمام معركة يُراد لها أن تكون أقرب إلى جراحة دقيقة في جسد الإقليم، حيث يقترب كل طرف من حافة الهاوية فقط ليرى ما إذا كان خصمه سيُغمض عينيه أولا.
منذ اللحظة الأولى للغارات الإسرائيلية على العمق الإيراني، ظهرت مؤشرات واضحة على أن قواعد اشتباك جديدة قد وُضعت، وأن كل طرف يتحرك داخلها بحذر، كمن يسير وسط حقل ألغام.
إسرائيل، رغم شراستها وضرباتها النوعية، تجنبت توجيه أي هجوم مباشر إلى الرمز السياسي الأعلى للنظام الإيراني، أي المرشد الأعلى، ولم تُعلن، حتى في أوج غرورها العسكري، عن نية لإسقاط النظام.
يتأكد تدريجيا أن الهدف أكثر هو إضعاف البنية الصلبة للحرس الثوري، وتجريده من قدرته على التهديد الإقليمي، وقصّ أجنحته الخارجية، دون المساس بجذع الدولة المركزية.
في المقابل، التزمت إيران بإرسال رسائل محدودة المدى، فلم تقترب من المصالح الأمريكية، ولم تستهدف القواعد المنتشرة في قطر والعراق وسوريا، رغم أن هذه القواعد تُعد امتدادا طبيعيا للمنظومة العسكرية الداعمة لإسرائيل.
هذه “الاحترافية في الغضب” تكشف حقيقة الميدان: هناك تفاوض غير معلن، تُديره الصواريخ وتراقبه الأقمار الصناعية.
ولأن التفاوض الحقيقي لا يجري في العلن، كان على الجميع أن يُراكم أوراق الضغط. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لم يكن يوما صديقا للشفافية الدبلوماسية، غادر قمة مجموعة السبع في كندا بشكل مفاجئ هذا الصباح، مخلّفا وراءه عشرات الأسئلة.
الرواية التي تطوّع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتقديمها تحدثت عن إشراف مباشر على “وقف إطلاق النار”، لكن ترامب كذّبها من على متن طائرته، وقال بوضوح إن ما ينتظره في واشنطن “أكبر من مجرد وقف للقتال”.
لغة التهديد كانت حاضرة، عبر تحذيره المواطنين الإيرانيين من البقاء في طهران، في تلميح إلى احتمالية ضربات أشد. وفي الوقت ذاته، تسربت معطيات عن بدء تفعيل “غرفة العمليات” في البيت الأبيض، وهي الغرفة التي لا تُفتح إلا حين يُدرس القرار بشأن تحريك القوات أو توجيه ضربة كبرى.
ترامب يلوّح بالقوة، لكنه في العمق يحضّر لعرض تفاوضي جديد لطهران. إنه الأسلوب الذي يُتقنه: رفع سقف التهديد حدّ إعلان نهاية العالم، ثم تقديم صفقة يمكن تسويقها على أنها منّة أمريكية.
العرض هذه المرة لا يبتعد كثيرا عن فحوى الاتفاق النووي القديم: تخفيض مستوى التخصيب، ووقف الأنشطة العسكرية في المنشآت النووية؛ مقابل رفع جزئي ومنضبط للعقوبات.
لكن الفارق الجوهري أن العرض الجديد يُقدّم على أنقاض البنية العسكرية الإيرانية، بعد أن تمّ تفكيك الكثير من منصاتها الصاروخية وقتل أبرز مهندسي برنامجها الصاروخي.
على الجانب الآخر، إيران تدرك جيدا أنها دخلت في مرحلة انكشاف استراتيجي. فعبر اغتيال قادة سلاح الجو، وتدمير البنى التحتية لمنصات الإطلاق؛ خسرت طهران قدرا كبيرا من هيبة الردع التي كانت تراكمها منذ عقدين.
مشروع إغراق إسرائيل بألف صاروخ فشل قبل أن يبدأ، والرد اقتصر على حوالي مئتي صاروخ وطائرة مسيّرة، بعضها سقط بفعل الإجراءات الإلكترونية الإسرائيلية.
هذا الفشل لا يعني أن إيران استُنزفت بالكامل، لكنه يضعها في موقع تفاوضي أضعف، ويجعلها أكثر حرصا على اللعب على المدى البعيد، عبر تجنيد المجتمع الدولي لوقف القتال، وتهديد استقرار إمدادات الطاقة، والرهان على الضغوط الشعبية داخل إسرائيل.
من الواضح أن إسرائيل تستثمر لحظة الانكشاف الإيراني للذهاب أبعد. فقد باتت تصريحات قادتها تتحدث صراحة عن “تغيير النظام”، وهو تعبير ظل لعقود من المحرمات في السياسة الواقعية.
وحين يُطرح في الإعلام العسكري الإسرائيلي احتمال استغلال الوضع لتحريك الأقليات العرقية داخل إيران، فذلك يعني أننا أمام تفكير مُمأسس في تفكيك الدولة الإيرانية من الداخل، عبر رهانات على الانتفاضة الكردية في الشمال، والتحركات البلوشية والعربية في الجنوب والشرق.
تذكّرنا هذه المقاربة بما جرى مع العراق في التسعينيات، حين اجتمعت الحرب الجوية مع الحصار الاقتصادي، تمهيدا لما سيحدث في 2003.
ومع ذلك، لا يبدو أن النظام الإيراني سيسقط بين ليلة وضحاها. فحسب أبرز المتخصصين في الشأن الإيراني، مثل الخبير علي آلفونه في حوار له مع “لوبوان” الفرنسية، فإن النظام في طهران صلب في بنيته الأمنية، ويتحرك بعقلية “البقاء بالحد الأدن
فالتجربة التاريخية تقول إن الجمهورية الإسلامية قادرة على امتصاص الضربات، حتى وهي تُركّع اقتصاديا وتُقصف عسكريا، ما دامت لا تواجه غزوا بريا مباشرا.
بل إن بعض المراقبين بدأ يتحدث عن “استراتيجية البقاء”، التي تقوم على ثلاث ركائز: تدويل الصراع بخلق أزمة طاقة عالمية، والشروع في بناء رأس نووي كوسيلة ردع قصوى، وخلق حالة تعبئة وطنية ضد التهديدات الخارجية، حتى وإن كان ذلك يمر عبر تحولات داخلية قد تفرز نخبة جديدة.
كل هذه المعطيات تجعلنا أمام مفارقة عميقة: الجميع يفاوض، ولكن لا أحد يعترف بالتفاوض. الصواريخ تتساقط، والدماء تُراق، لكنها في نهاية المطاف تُستخدم لإعادة ضبط الطاولة.
لم تعد هناك خطوط حمراء بالمفهوم الأخلاقي، بل فقط خطوط تكتيكية، تحدد مدى الضربات واتجاهاتها، دون أن تغلق الباب نهائيا.
الحرب إذن، هي جزء من عملية تفاوض معقّدة، يتحكم فيها منسوب الألم، لا منطق الحوار.
وفي خضم هذه اللعبة، تُطرح الأسئلة الكبرى: هل تكفي القوة النارية الإسرائيلية لإعادة تشكيل إيران؟
وهل يستطيع ترامب حياكة صفقة جديدة تُنهي عقدين من المراوغة؟
وهل تُجيد طهران لعق جراحها في ابتزاز العالم قبل أن تنزف أكثر؟
الأسابيع المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة، لكن الأكيد أن ما بعد هذه الحرب لن يشبه ما قبلها، وأن الشرق الأوسط دخل طورا جديدا من التفاوض… بالصواريخ.