تشجيع فرق كرة القدم.. تأثيرات صحية ونفسية
عندما تكون مشجعا لفريق ما في مجال كرة القدم وتريده أن يفوز على خصمه، فإنك تدخل دائرة كبيرة من المشاعر المتناقضة، المتأرجحة بين السعادة والحزن، والفرحة والغضب، وقد تصدر منك ردود أفعال لاإرادية، ليس من عادتك أن تقوم بها في حياتك بعيدا عن عالم الكرة ومبارياتها. بعض المشجعين يمكن أن يشعروا آن رؤوسهم على وشك الانفجار، أو أن يُصابوا بدوار، وترتعش سيقانهم، وترتفع معدلات ضربات القلب وترتجف الشفاه ويحمر الوجه وتتسع حدقة العين…
فحسب مقال تحليلي حول التأثيرات النفسية والفيزيولوجية على مشجعي كرة القدم المتعصبين، نشرته صحيفة “كوميرسيو” الكولومبية، فإن المشاعر التي تُثيرها لعبة كرة القدم تُعدِّل من مستويات الإندورفين والإندوكانابينويد والدوبامين، وهي مواد كيميائية تنقل المعلومات بين خلايا الدماغ، ويُطلقها الجسم في لحظات المتعة أو التوتر أو أي عاطفة أخرى، وتمنع الإحساس بالألم.
انعكاسات بيولوجية
في بداية تسعينيات القرن الماضي، بحث بول برنهارد، عالم السلوك بجامعة ولاية جورجيا الأمريكية، عن أسرار التشجيع، كونه سمة سلوكية بشرية مميزة، ليُشير إلى أن ارتفاع مستوى هرمون التستوستيرون لدى الرياضيين الممارسين، والذي يتسبَّب في دفقات الاندفاع عند اللعب وعند الفوز في مباراة مهمة، يحدث أيضا لدى المشجعين، أي أنهم يصلون إلى مستويات هرمونية مماثلة أو قريبة للاعبين أنفسهم، وقد تتعدى ذلك عند المشجعين المتعصبين حتى تصل إلى درجة الرغبة في تحفيز الدماغ مثلما يحدث داخل الجهاز العصبي لمدمني المخدرات.
قام برنهارد بتجربة فريدة بأخذ عينات من لعاب جمهوري البرازيل وإيطاليا بعد المباراة النهائية لكأس العالم 1994 من أجل التوصُّل إلى فهم علمي أوضح للتفاعلات البيولوجية لدى المشجعين، فوجد أن مستويات هرمون التستوستيرون انعكست بالفعل في نتائج اختبارات مشجعي المنتخب البرازيلي الفائز باللقب، وكانت أعلى بنسبة 20% من المستويات التي حصل عليها مشجعو المنتخب الإيطالي المنهزم.
لكن تجاوز الشعور بالشغف والوصول إلى مستويات عالية من التوتر قد يؤثِّر في صحة الجسم ويؤدي في الحالات القصوى إلى الوفاة، وهو ما حدث في مرات عديدة في أوساط جمهور كرة القدم عبر بلدان العالم، حيث تنتشر أخبار بين الفينة والأخرى عن وفاة مشجع في مدرجات الملعب أو في المقهى أو البيت، جراء إصابته بأزمة قلبية حادة أعقبت تفاعله الحاد مع تسجيل فريقه لهدف الانتصار، أو سجل عليه هدف في فترة حرجة من المباراة.
انعكاسات إيجابية
وعلى العكس من ذلك، وفي الجانب الإيجابي للتشجيع الرياضي، يرى عالم النفس في جامعة ولاية موراي بالولايات المتحدة الأمريكية دانيال وان، أن التماهي مع الفِرَق الرياضية يصبح لدى البعض وسيلة لتعزيز احترام الذات، ويكون أحيانا فرصة لتعزيز الصحة العقلية عموما، جاء ذلك نتيجة لما يقرب من 20 دراسة أجراها “وان” وزملاؤه، وأُعلنت نتائجها عام 2006، لتقييم مجموعات متنوعة من المشجعين تختلف أعمارهم بين طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات وكبار السن.
وجد هذا الفريق البحثي ارتفاعا في مستوى الشعور بالاطمئنان لدى المشاركين، وحُدِّدت تلك المستويات من خلال مقاييس حدَّدها علماء النفس، مثل الشعور بتقدير الذات وتكرار المشاعر الإيجابية والشعور بالانتماء للآخرين والشعور بالحيوية، ورصد “وان” ما يقرب من عشرين علامة على الرفاهية كانت مرتبطة بعشاق الفرق الرياضية.
وتوصلت نفس الدراسات أيضا إلى أن هناك أسبابا أخرى لا علاقة لها بفوز أو خسارة الفرق الرياضية نفسها، وهي أن تدفع المشجعين للوقوع في حب فِرَقهم، والمقصود هنا الروابط الإنسانية التي تخلقها هذه الرياضة حولها، والشعور بمتعة التواصل مع أناس لا تعرف حتى أسماءهم، وتعتبر أنك تنتمي إليهم، وتقتسم معهم نفس المشاعر.
جذور تاريخية
من جهة أخرى، يعد تشجيع فرق كرة القدم، فعلا اجتماعيا يرتبط بالتاريخ الأول للإنسان، ومظاهر الانحياز للقبلية والعشيرة التي عاشها قبل أكثر من مئة ألف سنة. فوجود المشجعين داخل مجموعات كبيرة مترابطة لها نفس المسعى من التشجيع، هو تلبية للاحتياج القديم للإنسان، مثل التكتل للدفاع عن النفس والانتصار أثناء التنافس مع الآخرين (الأعداء من المجموعات الأخرى).
فيما يرى روبرت سيالديني، الباحث الأمريكي في علم التأثير، أن الانتماء إلى جمهور الفِرَق الرياضية، هو نمط معاصر من القبلية، يكون فيها اللاعبون هم الجيش الذي ينتظر منه الجميع تحقيق النصر على ” الأعداء”. فيما ترى مينا سيكارا مديرة مختبر العلوم العصبية في جامعة هارفارد أن تشجيع الفرق الرياضية يُحقِّق إلى جانب الشعور بالانتماء القبلي متعة اجتماعية أخرى غامضة، وهي الشعور بأنك تتغلَّب على خصمك، وأنّ الرياضة قد تكون منفذا بنّاءً للميول القبلية للإنسان الحديث، وخلُصت إلى أنه (الإنسان) يحصل من خلال تشجيع الفرق الرياضية على كثير من المتعة بقليل من الضرر.