تسقط المدونة
أستسمح المهتمين بالنقاش الدائر حاليا حول مراجعة مدونة الأسرة، لاستعارة كلمة “المدونة” هذه للحديث عن حزمة نصوص قانونية مختلفة، هي النصوص التي يراد لها أن تكون خاصة بمهنة الصحافة.
أولا لأن هناك نقاش آخر، باهت وخافت، حول مدونة الصحافة والنشر، أريد له أن يُفتح في سياق مطبوع بالتراجعات الشاملة، وثانيا لأننا في بلد شهد هذا الأسبوع صدور حكم قضائي يدين صحافية بناء على شكاية ممهورة بتوقيع رئيس الحكومة، أي الشخص الذي يتقاسم السلطة التنفيذية مع الملك، والثاني بروتوكوليا في هرم الدولة، ليقتاد صحافية إلى قفص الاتهام ويستصدر لنفسه حكما بالإدانة.
لماذا؟ ببساطة لأنها تحدثت عن واقعة وفاة مأساوية لسياسي كان في قلب معركة انتخابية انتهت بتنصيب سياسية من حزب رئيس الحكومة في المنصب الذي كان يسعى إليه المتوفي، واستنكرت أن يتم التصويت وأن “تزفّ” هذه السياسية لمنصبها في الوقت الذي كانت دماء المرشح المتوفي تسيل وروحه تغادر جسده الجريح جراء طلق ناري، ولأنها اعتبرت وفقا لتفاصيل الواقعة أن “السياسة بنت كلب”. هكذا هي القصة بكل اختصار.
هذا الحكم صدر في وقت نشهد موجة جديدة من المتابعات والاعتقالات والمضايقات المرتبطة بحرية الرأي والتعبير، آخرها استدعاء رئيس نادي قضاة المغرب من طرف المفتشية العامة للشؤون القضائية بسبب مشاركته في ندوة علمية، وللصدفة كانت هذه المشاركة بدعوة من منظمة المحاميين التجمعيين، أي هيئة مقربة من الحزب الذي دخل سجلات التاريخ كأول فاعل سياسي يرفع دعوى ضد مواطنة مارست حقها في التعبير كصحافية تتابع الأحداث وتعلق عليها.
يعرف بعض الأصدقاء من الوسط المهني أنني كنت من المدافعين القلائل عن مدونة الصحافة والنشر الحالية، وشاركت برأيي قبل شهور مدافعا عن استمرار العمل بها وعدم فتح ورش تعديلها، وقد يستغربون بالتالي عودتي اليوم لوصفها بالمتخلفة.
تفسير هذا التحول بسيط: دفاعي عن نصوص المدونة الحالية، وكما قلت في ندوات وحلقات نقاشية، لم يكن لأنها مثالية أو متقدمة بالمطلق، بل لأنني حذرت، وكنت محقا في ذلك، من أن أي اقتراب من هذه النصوص في السياق الحالي يعني التوقيع على تراجعات وانتكاسات، وبالتالي تعتبر المدونة متقدمة قياسا إلى هذا السياق التراجعي والمتسم بهيمنة مركب سلطوي-مصلحي على مسارات صناعة القرار والتشريع.
أما اليوم وقد وقعت “الفأس في الرأس”، ودخلنا مرحلة اللجان المؤقتة وتسليم رقاب الصحافيين والمدونين والمعبرين عبر مختلف الوسائط لتقطفها يد القمع وتكميم الأفواه، فلم يعد لدينا ما نخشى ضياعه من مكتسبات بعدما أصبح كل شيء في مهب الريح.
مدونة صحافتنا متخلفة ومتجاوزة كجواب قانوني على ظواهر تقنية وسلوكية جديدة، واستمرار مقاربتنا لموضوع المحاكمات والاعتقالات والإدانات من زاوية قانون الصحافة في مقابل القانون الجنائي، وهل نكون في منصات التواصل الاجتماعي صحافيين أم نصبح مجرد مدونين… هذا كله ضرب من النقاش المتخلف عن ركب عصر بات فيه من السخيف الاستمرار في مقاربة حرية الرأي والتعبير من داخل هذه المقاربات البائدة.
ما كان يبرر وجود قوانين خاصة بالصحافة في السابق هو اختصاص هذه الأخيرة ب”امتياز” النشر الذي كان مؤطرا بشكل يسمح بترتيب المسؤولية. أما وقد أصبح ملايير الناس “ناشرين” بقوة الهاتف الذكي، فالحديث بات يتعلق بحرية تداول المعلومات كمبدأ أصّلت له المرجعيات الدولية الحديثة، وشملته بضمانات تجعل حرية الحصول على المعلومات وتداولها والتعليق عليها، مشتركا إنسانيا ومشمولا بالحماية القانونية، وكل مساس به يعتبر ضربا لحق إنساني راسخ هو التعبير الحر.
لا يعقل أن الجيل الجديد من مدونات السلوك ومواثيق الأخلاقيات يكرّس قاعدة إلزام الصحافيين بقواعد المهنة حتى وهم يغردون أو يدونون في حساباتهم الشخصية عبر الشبكات الاجتماعية، أي أن الواجبات تلاحقهم، وهو أمر محمود، ونجد في الوقت نفسه من يجد الجرأة الكافية للمجادلة في استمرار ضمانات حرية التعبير حين ينتقل الصحافي من المنبر الإعلامي إلى المنصات الرقمية الجديدة.
إن كان تعديل النصوص القانونية المتعلقة بالصحافة ضروريا، فأولى بنا فتح نقاش وطني واسع يستحضر كل ما رصدته تقارير مؤسسات دستورية ومدنية، وطنية ودولية، من حواجز وسدود تحول دون تداول المعلومات أولا، ثم دون التعبير الحر عن الآراء بمختلف الطرق والوسائط. وقبل ذلك القيام بمصالحة حقيقية وجبر ضرر من اعتقلوا وظلموا وحرموا من حريتهم، واستبدال النصوص الحالية بقواعد جديدة تضمن حدية تداول المعلومات والتعليق عليها… عدا ذلك سننتج نصوصا على مقاس السياق السلطوي، لا أكثر.