ترامب الذي نُحِبّ.. ترامب الذي نَكْره
فعلها ترامب وعاد إلى البيت الأبيض. كل شيء فريدٌ في هذا السياسي الشعبوي. دخوله وخروجه، ثم عودته إلى البيت الأبيض، غير مسبوقة: أول رئيس أمريكي يعود إلى الرئاسة بعد أن خسرها منذ ما يقرب من قرن ونصف (جروفر كليفلاند انتخب في 1884 وخسر ثم أعيد انتخابه في 1888). وأول رئيس يقتحم أنصاره الكونغرس لإحباط تسليم السلطة ويرفض الإقرار بهزيمته فيما يشبه “محاولة انقلابية”. وأول رئيس أمريكي يصل إلى الرئاسة وهو متهم بقضايا جنائية. وأول مرشح جمهوري يهزم سيدتين ديمقراطيتين ( كامالا هاريس في 2024، وهيلاري كلينتون في 2016).
كثيرون تزعجهم عودة ترامب. وكثيرون أيضا فرحون لفوزه. ويبدو ترامب الرئيس الأكثر إحداثا للانقسام: في أمريكا، وفي كل العالم. يًفضّل الحسمَ بدل البحث عن حلّ وسط، بتطرّفٍ فجّ وبغيض في بعض الأحيان.
يفاوض باستمرار على مِقْدار ما يجنيه كمستثمر شاطرٍ لا يتورّع حتى في إذلال شركائه قبل خصومه، ولا يلتفت كثيرا إلى الحافّة في تدبيره لكثير من القضايا في العالم.
ما يعنينا نحن المغاربة أننا نعيش حالة تنازعٍ بين “ترامبين”: ترامب الذي اتخذ القرار الأكثر جرأة في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية حين اعترف بسيادة المغرب على الصحراء، ووعد بفتح قنصلية فيها، في نقلة كَسَرت توازناً في هذا الملف. وترامب الصهيوني أكثر من أي رئيس أميركي آخر، وقد كان مستعدا ليُعطي إسرائيل في سنوات ما سعت إليه عقودا. كانت جرأته في الإضرار بالفلسطينيين أكثر من أن يستوعبها أي أحد أو يجاريها، وهو ينتقل من قرار إلى قرار آخر أخطر.
ترامب الذي نُحبّ
نحن “نحبّ” ترامب في علاقته بالمغرب، وقد حسم تردّدا، ولربما تلاعباً، في الموقف الأمريكي من قضية الصحراء. خلفه جو بايدن وجمّد المسار، لكنه لم يُلْغِهِ. والمغرب قَبِلَ هذا الحل الوسط ولم يفتَعِل مشكلا، وتفرّغ إلى وِجهات وواجهات جديدة محتفظا بالموقف الأميركي في الجيب على أمل عودة الرئيس الجمهوري.
وأتصوّر أن المغرب يأملُ أن تحمل عودة ترامب نوايا للاستمرار في النهج الذي بدأ في 10 ديسمبر 2020، حين وقّع المغرب وأميركا وإسرائيل اتفاقا ثلاثيا أكثر ما همّ المغرب فيه اعتراف واشنطن غير المسبوق بمغربية الصحراء.
وعلى ما تظهر الوقائع، المغرب لم يَنْفُض يده من الاتفاق الثلاثي، واستمر في التزاماته بالحدّ الأدنى، سيرا بإيقاع فرَضه وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وأيضا بمِقْدار ما كان نتنياهو على استعداد لمنحه في هذه العلاقة، وأيضا وفق حدود قدرة المغرب على التموقع بشأن القضية الفلسطينية، خاصة مع تغيّر المشهد في إسرائيل بسيطرة اليمين المتطرف على حكومة نتنياهو وخوْضه في إجراءات ماسّة بقضايا الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، ثم حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزة عقب هجوم حماس في 7 أكتوبر.
المغرب يقرأ عودة ترامب إلى البيت الأبيض عاملاً مساعداً في تعميق مكاسبه بشأن قضية الصحراء. وخطاب الملك محمد السادس الأربعاء الماضي، بمناسبة المسيرة الخضراء، كان على غير مِنْوال الخطابات السابقة. كان حازما وقويا في ترتيب العلاقة بشأن الصحراء، وبلغة طبعها انتقاد قوي لكل الأطراف التي تريد المسّ بالوحدة الترابية للمغرب، مستخدما قاموسا غير معتاد في خطابات الملك خلال السنوات الأخيرة.
وجّه الملك نقدا لاذعا، للجزائر تحديدا دون أن يُسْميها، وهو يتحدث عن “عالم آخر، منفصل عن الحقيقة، ما زال يعيش على أوهام الماضي، ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن”، و”من يستغل قضية الصحراء للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي”، و”من يستغل قضية الصحراء ليغطي على مشاكله الداخلية الكثيرة”، و”من يريد الانحراف بالجوانب القانونية، لخدمة أهداف سياسية ضيقة”، قبل أن يُخاطب الأمم المتحدة لتتحمّل مسؤوليتها في توضيح “الفرق الكبير بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمّد، بعيد عن الواقع وتطوراته”.
هذا الكلام لا يمكن فصله، من وجهة نظري، عن عودة ترامب إلى البيت الأبيض. الخطاب الملكي أُلقيَ بعد ساعات من إعلان ترامب فوزه بالانتخابات، وتتالي رسائل قادة العالم التي تهنّئه. وفي السياسة والعلاقات الدولية والخطاب الرسمي من مستوى خطاب الملك لا مجال للمصادفات.
خَطَبَ الملك وفي البال عودة ترامب لرئاسة أمريكا. وفي رسالته للتهنئة كان الموقف أكثر وضوحا وقد تضمنت البرقية رسائل بشأن العلاقات، بالقول: “إنني لأستحضر فترة ولايتكم السابقة التي بلغت علاقاتنا خلالها مستويات غير مسبوقة تميزت باعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الكاملة للمملكة المغربية على كامل ترابها في الصحراء”، قبل أن يضيف: “أعرب لكم عن تطلعي إلى مواصلة العمل سوياً معكم من أجل النهوض بمصالحنا المشتركة وتعزيز تحالفنا المتفرد في مختلف مجالات التعاون”.
ويمكن أن أجازف هنا بالزعْم أنه بين خطاب المسيرة الخضراء، ورسالة التهنئة لترامب، وما حملاه من رسائل، يُمكن تلمّس معالم سلوك مغربي منظور بالمرحلة المقبلة في علاقاته الخارجية.
كما لا يمكن فصْل الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش عن زيارة ماكرون التي سبقها موقفٌ لا يقلّ أهمية عن موقف أمريكا/ ترامب، باعتراف باريس أن “مخطط المغرب بخصوص الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء الغربية كأساس وحيد للتوصل إلى حل سياسي”، وأن “الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية”.
خطاب الملك محمد السادس محدّد بهَذَين السياقين المهمّين. عودة ترامب أضافت بعضاً من عناصر القوة لموقف الرباط، لإنتاج رؤيةٍ أكثر حسماً بعد سنوات من سياسة اليد الممدودة للجزائر في خطابات الملك أساسا.
ترامب الذي نَكْره
وإن كان مغاربةٌ يحبّون نسخة ترامب في ارتباط بقضية الصحراء ( وتجاوزاً، وبشكل مقصود، نتغاضى عن الشق الثاني في الاتفاق المرتبط بالتطبيع مع إسرائيل)، فإنهم، على النقيض، يكرهون نسخة ترامب في علاقة بالقضية الفلسطينية، التي تقول الرباط الرسمية إنها بمنزلة قضية المغرب الأولى (الصحراء).
ترامب في ولايته الأولى (من يناير 2017 إلى يناير 2021) كان خطيرا بشكلٍ لا يُتصوّر، وقد هزّ المشهد بقرارات شديدة الإضرار بمصالح الفلسطينيين: اعترَف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل سفارة واشنطن إليها، ووافق على الاستيطان في أراضي الفلسطينيين بما يقضي على حل الدولتين، وأطلق “صفقة القرن” التي تعاملت مع قضية الفلسطينيين كشأن إنساني اقتصادي وليس قضية تحرّر وطني من الاحتلال وقضية أرضٍ وحق عودة. فضلا عن أنه فَتَح مسار التطبيع مع دولٍ عربية ضمن تحالفات ناشئة تقفز على حقيقة الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ عربيةٍ إلى التأسيس لعلاقات ثنائية، ثم تحالفات إقليمية محدّدة ومُرَسَّمَة بقواعد جديدة تتجاوز قضية الفلسطينيين.
ثم لا يجب أن ننسى اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، ولو طال به الأمر في البيت الأبيض، ولو لم يخسر أمام جو بايدن في انتخابات 2020، لما كان أحدٌ قادرا على توقّع أين يقف قطار المِنَحِ الترامبية لإسرائيل.
ترامب الآن يعود إلى البيت الأبيض في وضع بالغ الخطورة وشديد الحساسية والتعقيد: حروب في المنطقة (أو هي حربٌ واحدةٌ بجبهات متعددة)، وتوازنات جديدة، ولاعبون جددٌ. ولا يتخيّل أحدٌ أن الرئيس الأمريكي العائد سيفضّل أحداً على إسرائيل.
إن ترامب خلال حملته الانتخابية نعَتَ الرئيس جو بايدن بأنه “يدعم حماس” بسبب ما اعتبره دعما أمريكيا غير كافٍ لإسرائيل، علما أن بايدن فتح خزائن ومصانع واشنطن العسكرية بلا حساب لتنفّذ إسرائيل الإبادة، ودعمها بلا سقوف بكل موارد الولايات المتحدة وثقلها في العالم، فضلا عن أن بايدن نفسه وقف بشكل غير مسبوق إلى جانب دولة الاحتلال بعد 10 أيام من هجوم 7 أكتوبر، وهو يردّد من قلب تل أبيب أنه “لو لم تكن هناك إسرائيل لكان واجبا علينا إقامة إسرائيل”، وأنه “صهيوني حتى لو لم يكن يهودياً”.
ولم يكن كلام بايدن يومها مجرد لغوٍ وحشوٍ دبلوماسي ولغة عاطفية أمام حليف مهزوز، بل أعقبته مساعدات لم تتوقف قتلت بها إسرائيل 43 ألف إنسان فلسطيني في غزة ودمرت القطاع على من فيه في عام واحد، ووسّعت عدوانها على أكثر من بلد عربي، حتى مهاجمة عاصمة إيران. ورغم كل ذلك، بايدن في نظر ترامب “يدعم حماس”، أو حين يقول في سياق آخر، في تعليق عنصري، أن بايدن “أصبح مثل فلسطيني”.
هذا هو الوجه الآخر الذي نكرهه في ترامب، والذي نتوقّع أن يمنح نتنياهو وعموم حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل ما عجزت عن انتزاعه بالحرب. ترامب سيكون أفضل حليفٍ لنتنياهو للذهاب في خطته لما يسمى “اليوم التالي”. وأتوقّع أن ترامب سيجرّ الكثير من العرب من مناخيرهم ليفتحوا أرصدتهم ليَغْرِف منها، وليوّقعوا اتفاقات تطبيع جديدة، وليساعدوا إسرائيل على تحويل مكاسب عسكرية حققتها إلى نصر استراتيجي. وهذا أخطر ما يمكن أن يحصل، إذ سيكون ترامب قد نصّب إسرائيل سيداً في المنطقة، ونتنياهو “حاكما بأمره”.
ترامب خطرٌ شديد على القضية الفلسطينية، خاصة في السياق الحالي. وما لم يحصل عليه نتنياهو بالحرب، سيسعى لتحصيله على يدي ترامب من خلال الدبلوماسية وكثيرٍ من دسائس الدبلوماسية والتواطوءات.
قصارى القول
مع ترامب، سيشهد العالم تغييرات كبرى، من الأراضي الفلسطينية وأوكرانيا والصين.. إلى كوريا الشمالية، كما حصل في ولايته الأولى. وسيسعى المغرب للاستثمار في عودته لاستئناف مسار العلاقات الثنائية على قاعدة الاتفاق الثلاثي، لترسيم حقائقَ جديدة يصعب تجاوزها مستقبلا. وترسيم هذه الحقائق الدبلوماسية والسياسية سيكون التحدّي الأبرز، حتى لا تبقى الإجراءات مرتبطة بشخص ترامب عبر نقلها إلى مستوى التزامات دولة.
في المقابل، سيعاني الفلسطينيون مع ترامب أكثر مما يعانون الآن. ولربما سينجح في وقف الحرب، أو سيوقفها نتنياهو من تلقاء نفسه ( وقد دخلت الحرب في غزة مرحلة فراغً بلا رهان سياسي بعد استعصاء تحقيق هدفي القضاء على حماس واستعادة الرهائن) في نوع من الهدية لحليفه ترامب لإظهار بمظهر رجل السلام. سيعاني الفلسطينيون لأن ترامب فريدٌ وقادر خوضِ حربٍ لا تؤدي إلى إراقة دماء الفلسطينيين، لكن ستصفّي القضية التي بسببها يبذلُ الفلسطينيون دماءهم.
بخطورة المغامِر، ترامب قادرٌ على منح إسرائيل أكثر مما يستطيع غيره، وهو المُحاط بفريق من المستشارين ولاؤهم معلوم لتل أبيب، فضلا عن أنهم عَقَدِيون ملتزمون ومؤمنون بسرديات تصبّ كلها في مجرى الصهيونية الدينية.