تاجر بالبندقية!

يعرف الجميع، تقريبا، مسرحية “تاجر البندقية” لوليام شكسبير. كان ذلك في زمن البارود (والبندقية هنا اسم مدينة إيطالية)، أما اليوم فإن العالم بأسره يشاهد، مجانا، مسرحية بعنوان “تاجر بالبندقية”، والبندقية هنا حقيقية وليست مجازا أو اسما لمدينة، وإلا لكنا أطلقنا عليه لقب “تاجر الرياض”.
في كلتا القصتين، أو المسرحيتين، هناك تاجر ماكر يتحين الفرص لسحق التجار المنافسين، ومنهم التاجر التركي واليهودي والسعودي والقطري والإماراتي والسوري والروسي… وطبعا لكل تجارته.
قد أتيحت لتاجر اليوم تلك الفرصة لسحق منافسيه بالفعل، كما أتيحت له في زمن شكسبير، مع فارقين ” بسيطين”، أولهما أن “تاجر البندقية” وجد أمامه القضاء والقانون، أما تاجر اليوم فهو ذاته القضاء والقانون وأدوات التنفيذ مجتمعة. وثانيهما أن أحداث المسرحية اليوم لا تدور في إيطاليا بل في مكان ما حول سوق عكاظ .
إن مشهد جورج بوش وهو يصافح بحرارة أسامة بن لادن في سوق عكاظ قبل يومين، يلخص بشكل عميق أزمة الإنسانية بشكل عام.. عفوا؟ لم يكن ذلك جورج بوش بل دونالد ترامب؟ ولم يكن من يصافحه أسامة بن لادن بل أحمد الشرع؟ آسف ولكن الشبه كان كبيرا حتى استعصى علي التمييز، لكن هل هناك من فرق؟ باستثناء أن أحمد قبل ما رفضه أسامة، بينما جاء من “سلالته” وبعده ببضع سنين؟
الأسعار كانت ملتهبة هذه المرة في سوق عكاظ، لكن الصفقات تمت على كل حال، والدليل هو تلك المصافحة بين دونالد ترامب وأحمد الشرع، وطبعا ككل تجارة هناك الرابح والخاسر وصاحب المنزلة بين المنزلتين. لكن السؤال هنا هو لماذا كانت تلك المصافحة بتلك الأهمية وبذلك السعر؟ فهذا لا يحدث، منطقيا، إلا إذا كانت المسألة مسألة حياة.. أو موت.
بالنسبة للأنظمة والدول فإن عبارة “حياة أو موت” تعني أساسا وحصريا مسألة “الشرعية، إذ لا حياة، سياسيا، لمن لا شرعية له. وربما لمن لا “شرع” له.
دعونا نبدأ بسعر تلك المصافحة التي توزع ثمنها بين عدة قبائل وأخذ شكل “بضائع” مختلفة. رسميا، اشترت السعودية من الولايات المتحدة أسلحة بمئات المليارات من الدولارات، وهذا يبدو للوهلة الاولى أمرًا طبيعيا، إذ لا ضير أن تتسلح دولة بما يضمن لها الهيبة الخارجية والاستقرار الداخلي.
وبهذا المفهوم ليس هناك أي تبذير، أين المشكلة في هذا إذا؟ \
المشكلة أنه لا أحد يمكنه القول أو الادعاء بأن تلك الأسلحة ستصل بالفعل إلى أراضي الحجاز، بل يمكن القول بأن الإكراهات الجيوستراتيجية الأمريكية بشكل خاص، والغربية بشكل عام في المنطقة لا تسمح بوجود أو إتمام تلك الصفقة بالشكل المعلن عنه، بل تقتضي صرف النظر عن تزويد السعودية بجزء غير يسير مما أدت “رسميا” ثمنه، والرياض تعرف ذلك وتعرف ماذا اشترت بالضبط.
وبعد كل هذا لا أحد يضمن أن ترامب سيحمي السعودية لوقت طويل وإنما سيوسع هامشها للهيمنة على الوضع الإقليمي في الخليج، وهو ما أدركت قطر، أو عرفت، بأنه سيتم على حسابها وعلى حساب بقائها، فاستبقت الأمر بقربان يقدم للرئيس الأمريكي.
وتشير تعقيدات وطبيعة الصفقة القطرية-الأمريكية، أنها تمت على عجل، وأن شيئًا ما قد باغث القطريين، وأن الوقت لم يكن يسمح لهم ببلورة صفقة أكثر ذكاء. فتقديم طائرة بأربعمائة مليون دولار، علنا، لرئيس دولة أخرى، هكذا دون مسوغ منطقي، لا ينم عن الكثير من الدهاء بل يدل على أن ما اشتراه القطريون أمر بالغ الاستعجال والأهمية.
ما قام به السعوديون، في جزء كبير منه، جاء كنتيجة للصفقة السريعة والباهظة التي أرسل الإماراتيون من يوقعها نيابة عنهم في عقر البيت الأبيض قبل أسابيع. صفقة تمتد على فترة عشر سنوات. وعبارة “عشر سنوات” هنا بالغة الأهمية، وسنعود إليها، وهي تقريبا نفس المدة التي تتوزع عليها فترة الاتفاق العسكري بين السعودية والولايات المتحدة، وقد التزمت السعودية بالإضافة لذلك باستثمار 600 مليار دولار في أمريكا. وكان رد ترامب على ذلك أن صرح للصحفيين على متن الطائرة أنه “سيقنع ولي العهد السعودي برفع المبلغ إلى ترليون دولار”.
رفع المبلغ مقابل ماذا؟ سيجد الطرفان شيئا ما، لا قلق بهذا الشأن. فدول الخليج إذا لم تشتري احتياجات (لا أحد يصدق أن السعودية تحتاج لمئات الطائرات “ف-35″، وبالطبع لا مصلحة للعديد من الأطراف أن تتوفر السعودية عليها، ولم تشتري دول الخليج بضائع ولا استثمارات، بل اشترت الوقت. اشترت حق البقاء والحياة لمدة عشر سنوات أخرى تقريبا. ألم نقل لكم أن المسألة مسألة حياة أو موت؟
على هامش هذا المهرجان، كان هناك بعض الغائبين-الحاضرين بقوة. يتعلق الأمر أساسا بثلاث دول: تركيا وإسرائيل و.. روسيا.
إن التنافس بين تركيا وإسرائيل حول دور الفاعل الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، سهّل كثيرا مهمة ترامب. بالنسبة لتركيا وأردوغان فقد ارتكبا خطأ فادحا ومميتا، وقد قلت ذلك في حينه.
يتلخص خطأ أردوغان في أنه خدع روسيا وخدع بوتين، أو ظن ذلك حينما غدر به في سوريا. فبينما أوهم أردوغان الروس بأنه ينسق معهم، ولمدة غير يسيرة، من أجل حل المشكلة السورية، كان في الحقيقة يجهّز لأحمد الشرع جيشا من المتطرفين الإسلاميين، ويقوم بتبييض وجوههم لدى الغرب وأمريكا من أجل تمكينهم من السيطرة على السلطة في دمشق. وقد نجح بالفعل في ذلك، على الأقل في الأسابيع الأولى.
حينها قال أحد الدبلوماسيين الروس إن ذلك سيكون له ثمن بالنسبة لأردوغان. والثمن هنا أن المصافحة التي حدثت بين ترامب والشرع تعني انتقال ولاء هذا الأخير من المعسكر التركي مباشرة إلى المعسكر الأمريكي، وكي تقبل أمريكا ذلك، كان على الإخوة الخليجيين أن يقنعوها، وقد جاوزوا الإقناع صراحة.
لقد تم تحجيم وربما إقصاء الدور التركي بنجاح، لفترة عشر سنوات على الأقل، بعدما كان أردوغان يعتبر أن تمدده نحو سوريا سيمكّنه من قطع شوط جديد في سياق إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، التي إن هي تحققت فستتم طبعا على أنقاض الشرعية الدينية والسياسية لآل سعود.
أما بالنسبة لإسرائيل، وبصرف النظر عن البروباغاندا الإعلامية، فهي لا تثق إطلاقا في واشنطن ولا تثق في ترامب. وقد سبق لي أن قلت في جلسة حوارية على موقع “صوت المغرب” في بداية نوفمبر الماضي أن “نتنياهو يخاف من ترامب حد الموت “.
ومهما حاولت واشنطن تبديد مخاوف تل أبيب بخصوص لقائه ومصافحته لأحمد الشرع وإضفاء الشرعية عليه، فإن ذلك لن يقنع إسرائيل.
ما لا يفهمه ترامب أو لربما يتجاهله عمدا، هو أن ما تقوم به إسرائيل وما تريده ليس العيش بسلام وسط جيرانها دول الشرق الآوسط العربية، والمعادية تاريخيا وجينيا لها، بل تريد بالفعل تحقيق نبوءة توراتية قوامها قيام دولة إسرائيل من البحر إلى النهر تمهيدا لعودة المسيح لقيادة اليهود في حربهم ضد من خالفهم والقضاء عليهم واستعبادهم.
لذلك فإن تل أبيب لا تهمها في الحقيقة لا مفاوضات ولا مبادرات للسلام ولا غيره، ما يهمها هو تطويع الوقت والمال والسياسة والإعلام لتحقيق هذه النبوءة. وترامب بتلك المصافحة، يدق إسفينًا في حلم إسرائيل الذي عمره آلاف السنين. ولا أظن أنها ستسمح باستمرار ذلك.
أما روسيا، فإنها من أصحاب المنزلة بين المنزلتين في تلك المصافحة، لسببين:
أولا لأن إضعاف تركيا في هذه المرحلة يعتبر من جهة انتقاما غير مباشر من خيانة أردوغان للرئيس بوتين في سوريا، ويسمح ثانيا لروسيا بتحجيم الطموح العثماني لأردوغان. وتاريخ روسيا مع العثمانيين كما يعلم الجميع قاتم، لأن العرق التركي يمتد إلى العديد من دول الجوار الروسي، ومنها تلك التي كانت جزءً من الاتحاد السوفياتي السابق.
لكن تبني ترامب للشرع، في سياق برود في العلاقات الروسية-السورية الحالية، يجعل أفق التواجد الروسي على ضفاف البحر الابيض المتوسط أضيق بكثير.
بقي على هامش كل ما سبق ألا ننسى أحد أكبر الخاسرين في تلك المصافحة الشهيرة، ويتعلق الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أخذه الحماس إلى حد استقبال الشرع في الاليزيه في محاولة منه للتأسيس ل”شرعية ” الدور والتواجد الفرنسي والأوروبي في سوريا وما جاورها. إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وُفّق كثيرا، من خلال تلك المصافحة في توجيه رسالة لأوروبا بشكل عام، وماكرون بشكل خاص، مفادها أن الشأن السوري، ولمدة عشر سنوات قادمة وقابلة للتجديد، محفوظ لواشنطن ومن يدور في فلكها خاضعا تابعا.
نحن أمام مشهد سوريالي يمكن تلخيصه كالتالي:
تركيا خدعت روسيا، ودول الخليج خدعت تركيا من خلال تمويل خطتها لإسقاط بشار الأسد، وإسرائيل خدعت تركيا ودول الخليج بعدما استغلت الفوضى في دمشق للتمدد جغرافيا والتقدم في مشروع تحقيق نبوءتها، وأوروبا عبر باريس وبرلين حاولت خداع من سبقها من خلال استغلال الوضع لتعزيز تواجدها في المنطقة، ثم جاء ترامب وخدع الجميع بمجرد مصافحة لمن كان يوما مطلوبا لديه بتهمة الإرهاب، وهو في ذلك لا يختلف كثيرا عما كان عليه الوضع بالنسبة لأسامة بن لادن.
لقد أدرك الجميع أن المسافة بين تعيين أحمد الشرع رئيسا لسوريا وإبقائه في ذلك المنصب، كبيرة جدا بل مستحيلة دون واشنطن، خصوصا إذا كان من يحكم واشنطن تاجرا ببندقية.
لقد سحب ترامب الحصير من تحت أقدام أردوغان ونتنياهو وزعماء الخليج وبات الجميع يدرك أن الشرع بعد اليوم، لن يكون طوع بنان تركيا بل لربما يصبح شوكة في حلقها، ولا تحت رحمة دول الخليج بل ضمانة لاستمرارها على قيد الحياة ولا تحت سلطة أوروبا، بل عائقا أمامها ولا حتى تحت تصرف تل أبيب بل تهديدا لها.
هل ينجو ترامب بفعلته هكذا ببساطة؟ سنرى ذلك. فالمسرحية لا زالت في بدايتها، لكنه على كل حال وضع نفسه في مرمى “بنادق” الجميع “.