story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

بوعبيد مات مرّتين

ص ص

تابعت هذا الرجل كما تابعتموه. رأيناه يلوّح من أعلى خزّان ماء في إحدى هوامش المغرب، شاهقا في عزلته، متشبثا بحبل في الهواء، ومعلّقا بين الأرض والسماء.

لكن ما لم ننتبه إليه بما يكفي هو أنه مات مرتين. الأولى حين لفظ أنفاسه في سرير الإنعاش، والثانية، وهي الأدهى والأمرّ، حين لم نعرف كيف نمدّ إليه اليد التي تنقذه.

بل الأسوأ: حين أسأنا فهمه، ثم أحطنا موته بقراءة سطحية تحوّل فيها من معتصم إلى مجرم، ومن ضحية إلى خطر.

كان بوعبيد إنسانا بسيطا، ابن هذه الأرض التي تلد أبناءها وتتركهم يواجهون مصيرهم فرادى. مكلوما لا لشيء سوى لأنه أحب والده، واعتقد أنه مات مظلوما، وصدّق أن للظلم وجها يمكن فضحه، وأن للحقيقة صوتا يمكن أن يُسمع.

بوعبيد هذا لم يكن له حزب، ولا نقابة، ولا سند إعلامي. لم يكن يملك إلا نفسه، وصوته المبحوح بالحزن والشك، فقرّر أن يضعه حيث لا يستطيع أحد تجاهله: فوق برج ماء، هناك، عاليا، شاهقا، في نقطة التقاء ما بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء، لعل من بيده القرار يلتفت إليه.

صعد البرج لا ليهدّد أحدا، ولا ليروّع ساكنة، بل فقط لأنه لم يجد سلّما آخر يوصل صوته، فاختار الصعود الحرفي، الجسدي، ليقول: أنا هنا، لا تتركوني أنزف في صمت.

فوق ذلك البرج، لم يكن بوعبيد مجرّد رجل يطالب بتحقيق، بل كان اختصارا مرعبا لكل مغربي يشعر أنه غير مرئي، وأن آلامه لا تُحسب ضمن مؤشرات التنمية، وأنه إذا صرخ، صُنّف، وإذا صمت، نُسي.

لم يحمل سلاحا، لم يهدّد أحدا، لم يطلب أكثر من فتح تحقيق في وفاة والده التي آمن في قرارة نفسه بأنها غير طبيعية.

لم يكن أكثر من مغربي يشعر بالحيف، وبدل أن يقدّم طلبا مكتوبا في إدارة باردة، اختار أن يكتبه بجسده، عاليا، مرئيا، فوق كل أعيننا.

قضى 18 يوما فوق برج الماء… والماء كما نعلم جميعا رمز الحياة. ولأن ما فوق الأرض صمت، وما تحتها قبر، قرّر أن يضع جسده على الحد الفاصل بينهما، علّ أحدا يلتقط المعنى.

لكننا لم نلتقط،

لم نفهم،

لم نر،

صمتنا أياما،

وعندما نطقنا، نطقنا إدانة.

وعندما تدخّلنا، تدخّلنا بتسرّع وبدائية،

صعد إليه من صعد، بلا تجهيز ولا مهنية، فقط ليعود بسقوط مروع، هو الآخر ضحية لسوء تدبيرنا الجماعي.

نعم، بوعبيد ضرب عنصر الوقاية المدنية.

نعم، دفعه إلى الهلاك.

لكن هل كان يفعل ذلك لولا أننا تركناه يصطلي وحده في صمته كل هذه المدة؟

هل كان سيحمل الحديد لولا أنه شعر أنه وحيد، محاصر، بلا أمل؟

العنف مدان دائما، لكن السؤال الأهم: ما الذي قاد رجلا مسالما، معروفا بطيبة قلبه، لأن يغدو خطرا على من يحاولون إنقاذه؟

الدولة بكل أجهزتها، والمجتمع بكل شرائحه، وجدوا أنفسهم عاجزين أمام رجل يطلب التحقيق في موت أبيه!

لم نرسل إليه مفاوضين محترفين، لم نسمع أن أخصائيا نفسيا ذهب ليحاول، لم نحضّره معنويا للنزول، لم ننصت إلى ما وراء الكلمات، إلى ما بين صرخات الأم التي قطعت آلاف الكيلومترات، وابنها الذي كان يردّد: “لن أنزل قبل أن تظهر الحقيقة”.

كم كلّفنا طلب الحقيقة؟

كم كلّفنا هذا المشهد من الإنسانية؟

من الذكاء؟

من الثقة؟

لقد مات بوعبيد بعد محاولته الانتحار شنقا.

بعد إلقائه لنفسه من فوق البرج بعد أيام طويلة من الاعتصام والعزلة والغضب.

مات، وكان لا بد أن يموت، لأننا تركناه يموت كل يوم منذ صعد البرج، منذ تقدّم بشكاية حفظت، منذ أحس ألا أحد سيسمعه إلا من هناك.

كان بإمكان هذه القصة أن تنتهي بشكل آخر.

كان بالإمكان أن نجرب الإنصات بدل الإنزال. أن نُعمل النفس الطويل بدل المغامرة المتهورة. أن نحترم البنية النفسية للناس، لا أن نختزلها في التقارير الأمنية.

لكننا اخترنا، كالعادة، ألا نفهم إلا بعد فوات الأوان.

وبعد الفاجعة، لم نتعلّم الدرس. هرعنا لنستنكر “وحشية” الضحية. ونندّد بصور العنف التي نشرها شهود. لنتحدث عن أخلاقيات التوثيق بدل أن نسأل:

من كان يجب أن يتحرك أولا؟

من ترك الرجل يعاني؟

من قرر أن من فوق البرج ليس سوى “مختل” آخر؟

الرسالة المرّة من هذه القصة أن الإنسان المغربي لا يزال ثانويا في العقل الجمعي، لا يزال بلا كرامة، ولا قيمة له إلا إذا كان من الجماعة، إذا تكلم كالجماعة، واشتكى كما تشتكي الجماعة.

أما إذا انفرد بسؤال مختلف،

بألم مختلف،

بفكرة غريبة…

فإن مصيره العزل، ثم التأثيم، ثم النسيان.

بوعبيد مات مرتين.

مرة لأنه لم يتحمل ثقل الجرح،

ومرة لأننا لم نمدّ له اليد الصحيحة في الوقت الصحيح.

رحمه الله.