story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

بوركتم أهل غزة

ص ص

في هذا الصباح الذي بدا أطول من حرب كاملة، خرج اسم غزة من تحت الغبار كما تخرج نجمة من دخان كثيف: واضحا، وعنيدا، وخصوصا… حيّا.

غزة لم تُعلن انتصارا عسكريا ولا طلبت مديحا رخيصا؛ بل أعلنت شيئا أبسط وأشدّ إيلاما لجلّاديها: أنها باقية، وأن البيوت التي سقطت لم تسقط معناها، وأن الناس الذين حُوصروا لم يُحاصروا في ضمائرهم.

منذ عامين وغزة تعيد تعريف الكلمات التي أهدرناها في نشرات الأخبار: الكرامة ليست شعارا، والصمود ليس مجازا، والحياة ليست رفاهية تؤجَّل إلى ما بعد “التسويات”.

لهذا نقول اليوم، بلا حاجة إلى استئذان أحد: بوركتم أهل غزة؛

أنتم الذين حفظتم للإنسانية آخر ما تبقّى لها من حجّة.

بوركتم لا لأن الحرب شارفت على صمت مؤقّت، بل لأنكم أبقيتم معنى للحياة في عالم حاول أن يقتل المعنى قبل الجسد.

منذ عامين والعالم يختبر صبركم وصلابتكم، وأنتم تردّون عليه بما لم يفهمه بعد: إنسانية لا تنكسر، وضمير يعاند الترهيب، وبلاد صغيرة على الخريطة كبيرة على التاريخ.

سيجادلكم من لا يرى في غزة إلا الخراب. وسيقولون: كيف يكون الانتصار وسط هذا الركام؟ وكيف نحتفل وأطفال تحت التراب؟

لكن الغزّي الذي رقص البارحة في الأزقّة، لم يرقص لنهاية حرب فقط؛ بل رقص لأنّه لم يُهزم، ولأنّ أضعف سلاح في العالم، ظل أقوى من كلّ ما أُنزل على رأسه من نار وحديد.

الإنساني الغزّي رقص لأنّه ما زال هنا، وما يزال اسم غزة يُقال في الزمن المضارع لا الماضي.

لقد فعلت غزة في العامين الماضيين ما لا تقدر عليه جيوش كاملة: أعادت تعريف الشجاعة في قاموس العالم. وعلّمتنا أن الحصار ليس قدرا، وأنّ “الاعتياد” على الظلم هو الخسارة الحقيقية.

ومن بين الدروس التي بعثتها إلينا مع الريح والملح، أن حبّ الأوطان ليس شعارا يُرفع أمام الكاميرات في نشرات الأخبار، بل خبز يُقتسم تحت القصف، وماء يُدّخر للجار، وضمادة تُشدّ على جرح الغريب قبل القريب.

هكذا تصير القيم سياسة، وتصبح الأخلاق برنامجا عمليا للحياة اليومية.

ليس جديدا على غزة أن تُوقظ فينا إنساننا. كانت الموجة بعد الموجة تجرّنا من حوافّ اللامبالاة إلى قلب الأسئلة: أين نقف؟ مع من؟ ولماذا؟

وفي خضمّ هذا كله، ظلّت بوصلة المغاربة تميل إلى المكان الأخلاقي الصحيح؛ لا لأنّنا نهوى الشعارات، بل لأننا نعرف، انطلاقا من تاريخنا ومن وعينا الجمعي، أنّ الأمم التي تنجو هي التي لا تساوم على العدالة.

واليوم، ونحن نسمع، وفق ما بثّته عواصم الوساطة، عن وقف لإطلاق النار وخطوات أولى لإدخال المساعدات والإفراج المتبادل، نعرف أنّ الطريق أطول من نشوة لحظة.

لكننا نعرف أيضا أن هذه اللحظة تقول شيئا كبيرا: آلة الحرب لم تنجح في قتل إرادة الحياة، ولم يُفلح الحصار في محو اسم المدينة التي “تبقى” مهما تبدّل اللاعبون.

لقد كتبناها في حينها: “الضيف رحل لتبقى غزة”. وها هي غزة لم تخذلنا، لأنّ المدن لا تُقاس بالأسماء العابرة، بل بالمعنى الذي تدافع عنه.

ولمن يهوّن من هذا الوهج باسم “الواقعية السياسية”، أقول إن الواقعية التي تُنكر الإنسان ليست واقعية، بل حساب بارد لميزان قوى يعجز عن فهم ما يحرّك التاريخ فعلا.

غزة تضعنا اليوم، نحن العرب والمغاربة على الخصوص، أمام التمرين نفسه:

كيف نحفظ كرامتنا ونحن لا نملك إلا صوتا وعقلا وضميرا؟

كيف نُبقي السياسة في خدمة الأخلاق لا العكس؟

إن كان لا بد من السياسة، فليكن أوّل وجوهها هذا: أن نُصغي إلى من دفع الثمن، ونحفظ حقّه في الحياة بكرامة، ونحرس ممرّاته الإنسانية من “بيروقراطية” القتل. وأن نرفض، بلا تردّد، أيَّ صكّ غفران يُكتب بدم الضحايا.

وإذا كانت تفاصيل الاتفاقات تتبدّل، فالمبدأ لا يتبدّل: لا أمن بلا عدالة، ولا سلام بلا حرية، ولا عمران بلا إنصاف.

باسمنا جميعا، نرفع التحية إلى أهل غزة. إلى من ظلّوا، وإلى من رحلوا وتركوا أسماءهم عناوين لبيوت لم تسقط.

نحيّي الأم التي تقسم الرغيف على أربعة وتغنّي كي لا يبكي الصغار.

ونحيّي الأبَ الذي عاد وفي يده قنينة ماء لجاره قبل بيته.

ونحيّي الفرق الطبية التي واصلت عملها في خيام بلا ضوء،

والصحافيين الذين جعلوا من أجسادهم دروعا لنقل الحقيقة.

نحيّي أيضا الذين وقفوا في كل عاصمة يرفعون صورة غزة؛ لأن التضامن ليس رفاهية أخلاقية، بل شرطُ إنقاذ ما تبقّى من إنسانيتنا.

أعرف أن بيننا من تعب من الدموع ومن الأخبار الثقيلة، ومن طول الطريق؛ لكن غزة أعادت إلينا ما فقدناه، أعادت معنى أن يكون الأمل فعلا لا انفعالا.

أن تقول “سأفرح الآن”، لأنّ فرحي هو إعلان رفض للهزيمة، لا إنكار للألم. سأصفّق لطفل يرقص على شاطئ ما زال محاصرا، لأن رقصته تُذكّرني بأنّ الحياة أقوى.

في الختام، لا بد من كلمة أقرب إلى العهد منها إلى المقال: بوركتم أهل غزة.

بوركت نساؤكم ورجالكم،

بوركت أطفالكم وشيوخكم،

بورك أطباؤكم ومعلّموكم،

وكتّابكم ورسّاموكم،

وشهداؤكم الأبرار

وأحياؤكم الأخيار.

لقد صنعتم في زمن قاس درسا لن ينساه العالم، وقلتم إن الحقّ، مهما كان أعزل، يظلّ يطرق باب المستقبل حتى يُفتح. وأن مدينة صغيرة على شاطئ شرقيّ قادرة، وحدها، أن تعيد إلينا تعريف ما نريد أن نكونه كبشر.

من هنا، من الرباط، نضع أيدينا على قلوبنا ونقولها بما يقدر عليه الكلام:

جزاكم الله عن الإنسان خيرا.

سنفرح اليوم لأنكم لم تُهزموا، وسنواصل التطلّع إلى الغد لأن العدالة لا تُعلن في بيان واحد.

سنبقى حيث اخترتم أن تقفوا: في صفّ الحياة.

وهذا وعد.