story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

بوادر التصدع الهوياتي!

ص ص

يعود سجال الهوية إلى الواجهة من جديد، لكن بمسحة مغايرة هذه المرة، تختلف عن ذلك التقاطب السياسي والأيديولوجي، وحتى الفكري، الذي طبع التقابل دائما بين العربية بوصفها اللغة الرسمية حسب الدستور، والفرنسية بما هي لغة الهيمنة الكولونيالية ولغة النخبة الاقتصادية الجديدة في البلد. يعود هذا السجال اليوم في صورة ‘صراع’ بين الأمازيغ والعرب، تنبني ‘أدواته’ على العرقية أولا، واللغة ثانيا، والتاريخ ثالثا، من غير أن يرتهن إلى شروط العلم، أو إلى الحجج المنطقية الراجحة على الأقل. ويبدو أنه سيقود إلى تصدع هوياتي في القريب العاجل، إذا استمر على االنحو الذي نراه.

برز في السجال الراهن تياران بارزان. يدفع التيار الأول بمقولة الأصل التاريخي، إذ يرى أنصاره أن ‘تمازغا’ هي أرض أمازيغية خالصة، ينبغي أن تكون مخصوصة للأمازيغ وحدهم، دون غيرهم من الوافدين من مشارق الأرض ومغاربها. من هنا، يكون الأحق بالأرض وخيراتها، والأجدر بتدبيرها، حسب منطق هذه المقولة، هم أبناء الأرض الأحرار. ولأن أنصار هذا التيار محرومون من ذلك، فهم يطالبون باستعادة الحق الأصلي، ويذهبون في ذلك إلى حد إرجاع العرب إلى رمال صحراء الخليج.

ويدافع التيار الثاني بمقولة فضل العرب على المغرب وأهله وتاريخه، حيث يصرون على أن شأن المغرب، وشمال أفريقيا كلها، لم يكن ليعلو لولا مجيء العرب ودخول الإسلام إلى المنطقة. كما يؤكدون أن الدولة والحضارة اللتين شهدهما المغرب بعد ذلك تحملان البصمة العربية والإسلامية. ومن هنا، فهُم ينكرون أن يكون الأمازيغ قد ساهموا بأي أثر في هذه البصمة، ويبنون حجتهم على انعدام أي كتابات أو نقوش أو آثار أخرى، من شأنها أن تدل على وجود حضاري أمازيغي قبل مجيء العرب، أو حتى بعد مجيئهم.

أتساءل هنا كيف ينجر الطرفان إلى هذا الحضيض من السجال الذي لا يعكس طبيعة النقاشات التي كانت سائدة في الإعلام والفضاء العمومي المغربي قبل عشر سنوات. الواقع أن التعبيرات العنصرية العروبية والانحيازات الأمازيغية ظلت نشازا حتى وقت قريب جدا. لا تظهر إلا لتخبو، وكما تعلو تقع في الحين. لكن ما يحز في النفس هو أن مثقفين انخرطوا في نقيق الضفادع هذا الذي يريد أن يغرق المغرب في مستنقع صراع الهوية، بعد أن ظننا أننا خلفناه وراءنا منذ زمن بعيد. أتساءل لماذا لا ينخرط هؤلاء في الموضوع الأهم؛ أي مناقشة مواطنة المغربي وانتمائه الإنساني وضمان حقوقه وحريته في إطار ديمقراطية حقة.

إذا حاولنا إيجاد أجوبة مقنعة، وسعينا إلى التعمق في البحث في أسباب هذا الانحياز لهوية ضيقة، سنجد أن الأمر يعود أساسا إلى المشروع الكولونيالي الذي ما يزال يبذل الجهود من أجل تقسيم المغرب وتفتيت المغاربة إلى شعوب وقبائل متناحرة. أقصد هنا بالأساس الأكاديمية البربرية التي رعتها فرنسا بحنو كبير من أجل بت بوادر الصراع الهوياتي ليس في المغرب فحسب، بل في مجموع البلدان المغاربية. حتى وإن ادعى مؤسسوها أنهم كانوا يشتغلون لصالح حقوق ‘تمازغا’ اللغوية والثقافية بصفة عامة، إلا أنهم ظلوا يعملون من أجل الفرنسية- أكانوا يدرون بذلك أم لا. والدليل البارز على ذلك أن الفرنسية- وليس أي لغة أخرى، للأسف، حتى وإن كانت الأمازيغية- ظلت اللغة التي يعبرون بها عن أفكارهم وهمومهم، والوسيط الذي يحمل دراساتهم وإنتاجاتهم، الخ.

كما أقصد الصهيونية العالمية التي أبانت، بما لا يدع مجالا للشك، أنها تسعى إلى أن يذهب هذا الشعب شذر مذر. لا يتجلى الأمر في ما أبان عنه زعيمها المجرم في الكيان الصهيوني في خرائطه ولقاءاته الصحافية خلال العام الأخير، وإنما في إصرار الصهيونية العالمية على استقطاب بعض ضعاف النفوس والجيوب من أبناء جلدتنا من أجل تسخيرهم في مشروع التفتيت هذا. ولا تبتعد الصهيونية العالمية في غاياتها عما بلغه المشروع الكولونيالي الفرنكفوني الذي تمكن، للأسف الشديد، من استعادة بعض ‘مكاسبه’ السابقة على أرض المغرب، من خلال فرض الفرنسية لغة الدروس في الثانويات العامة (أما الخاصة، فحدث بلا حرج). وعلى النحو ذاته، تسعى الصهيونية إلى تحريض مكون هوياتي على آخر، رغبة منها في إنجاز ما تحقق لها في بلدان عربية أخرى، انطلاقا من أسباب عرقية وطائفية وعرقية ولغوية، الخ.

هل ينبغي أن نقول إن اشتعال شرارة هذا السجال في الوقت الراهن مسألة صحية. لا، بالطبع. ذلك أن المغاربة، بمختلف مكوناتهم وانتماءاتهم، ينبغي أن يناضلوا من أجل العيش المشترك القائم على المواطنة، لا على أسبقية هذا المكون أو ذاك، أو أفضلية هذه الهوية أو تلك… إن السجال الوحيد الذي ينبغي أن ننخرط فيه الآن هو سجال وطن متعدد مؤمن بمستقبل هذا البلد ومبني على الاختلاف المشروط بالحوار، لا سجال ‘أقليات’ مؤمنة بتفوقها العرقي أو اللغوي أو الديني.