بلغزال: ماذا يعني “تقرير المصير” في الأدبيات والممارسات الدولية؟
خصً الخبير في ملف الصحراء، عبد المجيد بلغزال، مجلة “لسان المغرب“، بورقة مطوّلة تتناول إمكانية تطبيق خيار الحكم الذاتي في الصحراء، وتقدّم حزمة موثّقة وغير مسبوقة من الوثائق والمراجع القانونية التي تثبت الحقوق المغربية. ورقة تتوخّى قدرا كبيرا من الموضوعية، وتدافع عن حق الرأي المخالف في الوجود، ننشرها في محاور متعددة، هذا أحدها:
تطور مفهوم “تقرير المصير”
- تطور “تقرير المصير” في الأدبيات المرتبطة بحركة اليسار
لا يتسع المجال لمقاربات مستفيضة في هذا السياق، ومع ذلك يمكن الوقوف عند المواقف والاتجاهات الكبرى التي قاربت أطروحة تقرير المصير، والتي من أبرزها:
أ. الموقف الذي قادته روزا ليكسمبرغ، وتمحور حول رفض المشاركة في الحرب، من منطلق أن الصراع الوحيد لتحقيق تقرير المصير، يرتبط بالنضال ضد البرجوازية وانتزاع السلطة والملكية من يدها.
ب. الموقف الذي أسس له لينين، وتمحور حول فكرة مفادها أن النضال لضمان حقوق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها، يمر عبر تحويل الحرب الإمبريالية إلى ثورة شاملة ضد الرأسمالية، وذلك من خلال تبنيه لتقرير مصير الشعوب، رفعا لكل توجس قومي وأملا في توحيد القوى العمالية لمختلف الأمم والشعوب، وتوجيه بوصلة الصراع ضد الرأسمالية.
تباين المواقف بشأن مبدأ تقرير المصير، بين اتجاهات فكرية مختلفة سيتعمق بمناسبة قيام الاشتراكية في بلد متعدد القوميات، وهكذا سنجد أنفسنا أمام مواقف واتجاهات مختلفة، فهناك من لم يجد، معنى ل”مبدأ حق تقرير المصير”، في المجتمع الاشتراكي، طالما أن الهدف الأسمى للاشتراكية، هو القضاء على كل أشكال القهر القومي انطلاقا من قضائها على الاستغلال الطبقي.
بينما ذهب اتجاه أخر إلى القول ” أن إلزام أمة ما على العيش داخل حدود أمة أخرى، يعد شكلا من أشكال الخيانة لمبادئ الاشتراكية، فيما ذهب رأي ثالث إلى القول، إن المجتمع الاشتراكي، وإن كان غير قادر على أن يحتوي كل الأمم بداخله عن طريق القوة، فإنه سرعان ما يخلق الشروط الضرورية لإلغاء القهر القومي وبناء مجتمع انتقالي نحو ملكوت الحرية الجماعية”.
وفي هذا السياق، يبرز موقف روزا ليكسمبورغ، التي تدعي فيه أن دعم حق كل أمة في الانفصال يعني في الواقع دعم بورجوازيتها، فيما يؤسس لينين لموقف جدلي ومترابط بين الأممية والديموقراطية وحق تقرير المصير، وذلك بزعمه أن حق تقرير المصير يشكل مدخلا للتعاون والوحدة الطوعية في أفق الاندماج بين الأمم.
موقف لينين هذا، التركيبي بين الأممية والديمقراطية وحق تقرير المصير، سعى من خلاله أيضا، إلى مواجهة حالة الريبة والعداء بين العمال من خلفيات إثنية وأممية مختلفة، وبالتالي تيسير خيار التحالف بين الشعوب المستعبدة وتحويلها إلى حليف رئيسي جديد للبروليتارية.
إن الموقف من “تقرير المصير” في الفكر الماركسي والاشتراكي عموما، لم يكن موقفا ثابتا بقدر ما كان خاضعا للتحليل الملموس والتمييز الدقيق بين طبيعة التناقضات المجتمعية، الثانوي منها والمركزي، التي من شأنها أن تعمل لصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة.
في هذا السياق، يمكن العودة إلى موقف ماركس من المسألة الإيرلندية، ففي 1848، كان ماركس يرى أن قضية استقلال إيرلندا، على هامش الصراع الطبقي في انجلترا، وكان يلوم القوميين الإيرلنديين، لأنهم لم يتمكنوا من ربط أنفسهم بالحركة العمالية الثورية في إنجلترا. ومع تراجع هذه الحركة العمالية الثورية في انجلترا، وما تلاه من تحالف بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة الانجليزية ضد الإيرالنديين، قدر ماركس أن العقبة الأساسية أمام تحرير العمال الانجليز، أصبحت في وقوفهم في نفس الصف مع الطبقة الحاكمة، في مواجهة الاستقلال الإيرلندي، وبالتالي غير رأيه وأقر بأن المسالة الإيرلندية، يجب أن تكون في مقدمة أولويات الثوريين، لأنها تشكل مدخلا مركزيا لتجاوز عقم وتراجع الطبقة العاملة الإنجليزية.
والملاحظ أن موقف ماركس من المسألة الإيرلندية، ارتبط في الأصل بتقدير ماركس أن انجلترا أصبحت في مقدمة الدول التي بلغ التناقض فيها أوجه بين البروليتاريا والبرجوازية، وبانتصار البروليتاريا الانجليزية على بورجوازيتها سيتحقق انتصار سائر المضطهدين على مضطهديهم.
وفي المسألة البولندية، كانت روزا ليكسمبورغ ضد النزعة القومية البولندية، فيما رأى لينين أن أفضل طريق لتقويض الحركة القومية البولندية، هي أن تعلن الطبقة العاملة الروسية )الطبقة العاملة في الدولة المضطهدة(، أنها ليست لديها مصلحة في استمرار القمع القومي القيصري الروسي، وذلك بهدف رفع الريبة وتوحيد الطبقة العاملة في كل من روسيا القيصرية وبولونيا.
والملاحظ أن المنهج الماركسي، وهو يتصدى لمعالجة المسألة القومية، كان حريصا على توحيد نضالات الطبقة العاملة، من أجل الإطاحة بالرأسمالية وإلغاء الحدود، وبالتالي لم يتردد في الدفاع عن الحق الديموقراطي للأمم في تقرير مصيرها.
التذكير اليوم، باختلاف مواقف واتجاهات الفكر اليساري من تقرير المصير، ليس دعوة طوباوية مفصولة عن الواقع، كما أنه لا يبرر التملص من كون “تقرير المصير”، وبالصرف النظر عن اختلاف التوجهات الفكرية بشأنه، فإن تطوره الحاسم، في منظومة القانون الدولي، ارتبط بتطور المبدأ في سياقه اللبيرالي، ومع التسليم بفعلية هذا الاتجاه، فإن الممارسة الدولية المرتبطة بالقانون الدولي تؤكد، من جهة على ضرورة التعاطي مع منظومة القانون الدولي باعتبارها منظومة نسقية، يعزز بعضها البعض الآخر، ومن جهة ثانية فإن أهداف وميثاق الأمم المتحدة، تشدد على أهمية السلم والأمن الدوليين، كخلفية موجهة لفهم وإعمال مقتضيات القانون الدولي، وغير خاف أن هذه الخلفية الموجهة، كانت ولازالت تتطلب من الفاعلين أيا كانت مواقعهم، ومن حركة اليسار في المقام الأول، إعادة تأطير قراءة “مبدأ تقرير المصير” وفق متطلبات ومبادئ بناء السلم والأمن الدوليين، علما أن استحضار هذه القاعدة، لا يمكن إلا أن يقود نحو ترجيح أهمية تقرير المصير بمعناه الداخلي، باعتباره مدخلا وأفقا لبناء السلم المغاربي، فضلا عما يوفره من فرص متجددة لشعوب الساحل والصحراء، للتذكير فإن هذه الخلفية المستندة على مبادئ السلم والأمن الدوليين، هي ما تؤطر الاعتبارات والحيثيات الموجهة لمختلف القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بخصوص نزاع الصحراء.
- تطور تقرير المصير في المرجعية الليبرالية
قبل الحرب العالمية الأولى، كان القانون الدولي الأوروبي وفق مضمونه الكلاسيكي، يبيح للدول الغربية الاستيلاء بالقوة على أراضي الغير.
1.2 تقرير المصير في مبادئ ويلسون
بعد الحرب العالمية الأولى، سيتقدم الرئيس الأمريكي وودورو ويلسون بما سمي “مبادئ السلام من أجل إنهاء الحرب العالمية الأولى”، في خطاب له بتاريخ 08 يناير 1918، علما أن هذا الخطاب جاء ردا على منشور فلاديمير لينين بشأن السلام الصادر في 1917 بعد نجاح الثورة البولشوفية، في القضاء على الامبراطورية القيصرية.
تضمنت مبادئ ويلسون 14 مبدأ لعل أهمها:
• …
• “9. إعادة النظر في حدود إيطاليا، بحيث تضم جميع الجنس الإيطالي.
• 10. منح القوميات الخاضعة للإمبراطورية النمساوية حق تقرير مصيرها.
• 11. الجلاء عن صربيا ورومانيا والجبل الأسود، وإعطاء صربيا منفذا إلى البحر، وإقامة علاقات جديدة بين دول البلقان كافة، مبنية على أسس قومية تاريخية، وضمان حريتها الاقتصادية والسياسية.
• 12. ضمان سيادة الأجزاء التركية، وإعطاء الشعوب الأخرى غير التركية، التي تخضع لها حق تقرير المصير.
• 13. بعث الدولة البولندية، بحيث تضم جميع العنصر البولندي، وإعطائها منفذا إلى البحر”.
من خلال هذه المبادئ المتضمنة في خطاب الرئيس الأمريكي ويلسون، نسجل ما يلي:
• مبدأ تقرير المصير، الذي جاء ضمن مقترح ويلسون، طبق فقط على الدول المهزومة خلال الحرب العالمية الأولى، خاصة ألمانيا، والنمسا، وهنغاريا، وتركيا، وذلك من خلال :
* إلحاق جنوب تيرول بإيطاليا.
* اقتطاع أراضي ألمانيا لصالح بولندا.
* اقتطاع أراضي هنغاريا لصالح تشيكو سلوفاكيا ورومانيا.
وبالتالي فإن ” مبدأ تقرير المصير” تحول إلى مجرد أداة لخدمة مصالح دول الحلفاء.
2.2 تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة
ارتبط الإقرار ب”الحق في تقرير المصير” في ميثاق الأمم المتحدة بسياقين مختلفين، حيث ورد في المادة الأولى من الفصل الأول، مرتبطا ب “حفظ السلام والأمن الدولي ومنع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها، وحل المنازعات الدولية سلميا وإنماء العلاقات الودية بين الأمم”.
أما في المادة 55 من الفصل التاسع، فقد ارتبط تقرير مصير الشعوب ب”تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”.
ورغم تنصيص ميثاق الأمم المتحدة على “مبدأ تقرير المصير” في ميثاقها، فإن الدول الغربية، ظلت تنظر إليه باعتباره، مبدأ سياسيا، وليس حقا قانونيا دوليا.
وفي سياق التطورات اللاحقة التي ستعرفها منظومة القانون الدولي، انطلاقا من الممارسات التي أرستها الجمعية العامة للأمم المتحدة في مسار مواكبتها لحركة التحرر التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، سيعرف “مبدأ تقرير المصير ” تطورا جديدا.
3.2 تقرير المصير من خلال إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة
إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة المعروف بتصريح الاستقلال 1514 )د15( الصادر بتاريخ 14 دجنبر 1960، والذي ينص في مادته الثانية على:
“لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
لكنه عاد وأكد في المادة 6 من نفس التصريح على:
“كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”.
ما قد يبدو تناقضا بين مواد التصريح، يؤكد أن تصريح أو إعلان الاستقلال، لا يمكن تفسيره أو تأويله إلا ضمن منظومة نسقية للقانون الدولي ومن ذلك:
تصريح مبادئ القانون الدولي بشأن علاقة الصداقة والتعاون بين الدول القرار 2625 )د25( الصادر عن الجمعية العامة في سنة 1960 والمتعلق بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفق ميثاق الأمم المتحدة، والذي ضم ضمن مبادئه الأساسية:
“أ. المبدأ الخاص بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية لدولة ما وفقا للميثاق.
4.2 تقرير المصير في العهد الدولي لحقوق المدنية والسياسية
جاء في المادة الأولى: “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق، حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
وجاء في المادة 4 من نفس العهد “لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، دون ما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي، القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي”.
5.2 ملاحظات بشأن تطور مبدأ تقرير المصير في الممارسة
هل يمكن أن نقرأ المسافة بين الحق في تقرير المصير والحق في سلامة الوحدة الترابية الوارد سواء في تصريح الاستقلال أو في الإعلان المتعلق بعلاقة الصداقة والتعاون الدولي على أنه تناقض أو جمع بين مبدئين مختلفين، أم أن الأمر يتطلب الحرص على قراءة المبادئ باختلاف مضمونها، ضمن نظام نسقي للقانون الدولي؟
ألا تعتبر عملية الجمع والتركيب بين الحق في تقرير المصير وحماية سلامة ووحدة الأمم، مجرد انصياع توافقي بين مختلف الدول الفاعلة في قرارات المنتظم الدولي؟
هل يمكن قراءة قرارات الجمعية العامة، سواء تلك المتصلة بتصريح أو إعلان الاستقلال أو المرتبطة بعلاقة الصداقة والتعاون، مفصولا عن الاعتبارات والديباجة الواردة في النصين، علما أن الديباجة والاعتبارات، هي في الأصل إطار مرجعي مفسر وموجه للقرارات الصادرة عن الجمعية؟ وفي هذا السياق وانطلاقا من ديباجة إعلان الاستقلال خاصة الفقرة: “وإذ تؤكد أنه يجوز للشعوب، تحقيقا لغاياتها الأساسية، التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية دون الإخلال بأية التزامات ناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة والقانون الدولي”.
وبالرجوع إلى الفقرة 2 من المادة 4 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية: “لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية، دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي، القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي”.
بناء على هذه القراءة التركيبية لنظام القانون الدولي في علاقته بالاعتبارات والديباجة الموجهة له، ألا يمكن تأكيد أن منظومة الأمم المتحدة لم تكن دوما منزهة أو بعيدة عن تأثير مصالح القوى الكبرى في بناء الاتفاقات والعهود بما يرجح كفة مصالحها، فضلا عما سلف، فإن ما قد يبدو تعارضا أو تناقضا بين المبادئ أو حضورا لثقل المصالح والتوازنات فإن “مبدأ تقرير المصير” يطرح إشكالات متعددة من قبيل:
ما المقصود بالشعب؟ ما هو مضمون تقرير المصير؟
ما هي الوسائل اللازمة لتنفيذه؟
كيف يمكن المواءمة بين الحق في تقرير المصير وسلامة ووحدة الدول؟
كيف يمكن إقرار المساواة في السيادة بين الدول؟
ما هي سبل منع استعمال القوة ومنع التدخل في سيادة الدول وسلامتها؟
وإذا كانت وثيقة هيلسينكي الصادرة بتاريخ 1975، في سياق البحث عن وضع أسس جديدة للأمن والتعاون بين الدول الأوروبية من المعسكرين الشرقي والغربي، قد جاءت في سياق التمهيد لنهاية الحرب الباردة ودخول الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مفاوضات للحد من الأسلحة الاستراتيجية، مما وفر فرصة لإعلان مشترك قائم على قاعدة المساواة في السيادة بين الدول واحترام حقوق السيادة الوطنية لكل دولة وحصانة حدودها ووحدة أراضيها وسلامتها، فإن انهيار المعسكر الشرقي سرعان ما سيدفع المنتظم الدولي إلى الدفع في اتجاه دعم استقلال الشعوب والجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا سابقا، دون أي ما احترام للتعهدات السابقة المرتبطة بسيادة الدول.
6.2 تقرير المصير في منظور الدول الغربية خلال عقد التسعينات
إذا كان تطور “مبدأ تقرير المصير” حسب قرارات الجمعية العامة والمعاهدات الدولية ذات الصلة، قد ظل محافظا على نوع من التركيب النسقي بين الحق في تقرير المصير والحق في سلامة ووحدة الدول، فإن هذه المنظومة ستعرف تغييرا كبيرا في أعقاب تفكيك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، وما تلا هذه الفترة من ازدياد الطلب على تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان، خاصة في عقد تسعينيات القرن الماضي.
هذا السياق سيسمح بالانتقال من الحق في تقرير المصير إلى الحق في الانفصال، خاصة بالنسبة للدول والكيانات الناشئة عن تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا، ومسارعة المنتظم الدولي إلى الاعتراف بالدول التي أعلنت انفصالها من جانب واحد…
هذا التحول الذي مورس أحيانا رغم وجود قرارات صادرة عن الجمعية العامة تؤكد أحقية وسلامة الوحدة الترابية للدول (حالة صربيا(، برره البعض بأن غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، التي من شأنها حماية منظومة الحكم الذاتي للكيانات الناشئة، يعطيها الحق في الانفصال، وبالتالي فإن الالتزام بحق حماية سلامة ووحدة الدول الوارد في تصريح الاستقلال، لا ينطبق إلا على الدول التي تحترم تقرير المصير وتتوفر على حكومات وبنيات مؤسسية، تمثل كافة الشعب دون تمييز على أساس عرقي أو عقدي…
هذا التفسير الذي ساد في بداية تسعينيات القرن الماضي يبدو غير منسجم، على اعتبار أن الدستور السوفياتي، يؤكد في فصله 72 حق الجمهوريات المشكلة للاتحاد في تقرير المصير بالاستقلال عن الاتحاد.
نفس الشيء ينطبق على يوغوسلافيا التي كان دستورها يؤكد على أن جمهورية يوغوسلافيا، تعد اتحاد دولة شعوب في شكل جمهوري…
إن الانحياز لدعم انفصال الكيانات التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي أو ضمن يوغوسلافيا، بدعوى غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، هو انحياز يستند إلى مبرر سطحي، بحيث كان الأولى التصدي للأسباب والعوامل التي تحول دون التمتع بالديموقراطية وحقوق الإنسان، عوض الدفع في اتجاه تفكيك الحق في دولة موحدة…
وغير خاف أن هذا الاتجاه في التأويل، الذي ساد في عقد التسعينات من القرن الماضي، قد تسبب في حالة من الفوضى، وأضر بشكل كبير وغير مسبوق بالأمن والسلم الدوليين مع ما ترتب عن هذا الضرر من جرائم فضيعة ضد الإنسانية وارتفاع مهول في نفقات الأمم المتحدة المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين، والتي انتقلت في زمن قياسي من 700 مليون دولار إلى حوالي 4 ملايير )الصفحة 14، المبادرة المغربية بشأن الصحراء كتعبير عن تقرير المصير، عبد الفضيل كنيديل(.
7.2 تقرير المصير ونسقية القانون الدولي
لا يمكن قراءة ” مبدأ إعلان الاستقلال” أو “مبدأ تقرير المصير” الصادر بموجب قرار الجمعية العامة 1514)د15( بتاريخ 14 دجنبر 1960 إلا في إطار نظام متكامل، وهذا النظام يفترض قراءة أفقية للإعلان في علاقته بالديباجة، على اعتبار أن الديباجة جزء لا يتجزأ من القرار، بالإضافة إلى علاقة التنصيص الصريح في الفقرة 2 على: “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنماءها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
مع ما يرد في الفقرة السادسة من نفس القرار، حيث جرى التأكيد:
“كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لأي بلد، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه”.
في المسافة بين الفقرة الثانية والفقرة السادسة من إعلان الاستقلال، لن نكون أمام تناقض، بقدر ما نحن أمام وضعية، تفترض قراءة المبدأ في ضوء هذه النسقية، التي لا تخلو طبعا من الكشف عن أن بناء منظومة القانون الدولي، لم تكن يوما كتابا مقدسا، بقدر ما كانت نتاج سيرورة شاقة لبناء وتكييف التوافقات بين إرادات مختلفة، ليس بالضرورة كلها مبدئية، بل إننا إذا عدنا للديباجة سنجد أنها تستند بالإضافة إلى مقاصد وميثاق الأمم المتحدة إلى التطلع للانعتاق من الاستعمار.
والديباجة، حين تؤكد على حق الشعوب، تحقيقا لغايتها الخاصة، في التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية، فإنها ربطت هذا الحق المشروع للشعوب، بعدم الإخلال بأية التزامات ناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي القائم، وهي بذلك تقيد حق الشعوب في التصرف في ثرواتها بما تسميه الالتزامات الناشئة بحكم التعاون الدولي، وهي عبارة في الختام موجهة بالأساس لحماية مصالح الدول الكبرى.
وبالنظر إلى كون القانون الدولي يشكل منظومة متكاملة، يفسر بعضها البعض الأخر، فإن تصريح منح الاستقلال لا يمكن قراءته وفهمه إلا ضمن الحدود التي يؤطرها إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلق بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة، الصادر بموجب القرار 2625 )د25(، خاصة المبادئ التالية:
- مبدأ امتناع الدول في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة، أو استعمالها ضد السلامة الاقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي نحو أخر يتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة.
- مبدأ فض الدول لمنازعتها الدولية بالوسائل السلمية.
- المبدأ الخاص بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية لدولة ما.
- مبدأ تساوي الشعوب في حقوقها، وحقها في تقرير مصيرها بنفسها.
- مبدأ المساواة في السيادة بين الدول.
في ضوء هذه المبادئ العامة المضمنة في القرار 2625، ألا يمكن أن نتساءل بأن القول بحق “تقرير مصير شعب الصحراء الغربية” يتنافى، بل ويتناقض مع هذه المبادئ مع ما تشكله من مرجعية لحق المغرب كدولة وكيان في تقرير مصيره العام، وفي حقه الأوحد في معالجة وتدبير القضايا التي تكون من صميم ولايته القومية؟
8.2 تقرير المصير في الممارسة الدولية
الكل يعلم أن مسألة حدود الدول الافريقية، مرتبطة بطبيعة الحدود الموروثة عن الاستعمار الغربي، وأن الدول الافريقية، بما فيها تلك التي ترفع صوتها بمناصرة “مبدأ تقرير المصير”، تتمسك بكل قوة بهذه الحدود الموروثة، وإن كانت الحدود الموروثة لا تتوافق بالضرورة مع مصالح وإرادة العديد من الشعوب، ولعل ذلك ما ينعكس على حجم وطبيعة الصراعات الإثنية التي تجتاح الدول الافريقية مثل دول الحوض الافريقي، حيث عمل الاستعمار على توزيع بنيات اجتماعية وإثنية كبرى بين عدد من الدول.
والملاحظ أن الحدود الموروثة عن الاستعمار خاصة في إفريقيا، وما تطرحه من تحديات جراء احتمال اندلاع حروب إثنية وقبلية، هي ما دفعت معهد أسبين بكولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى تنظيم ورشة للتفكير في غشت 1994، في أعقاب انتهاء الحرب الباردة للتفكير الجماعي في نوعية وطبيعة الحروب المقبلة وما تطرحه من تحديات. الورشة تميزت بمشاركة عدد من الخبراء وشخصيات بارزة مثل ماركريت تاتشر، جيمس بيكر، برنار كوشنير، وجاك أطالي.
هذا الأخير اعتبر في هذه الورشة أن الحروب المقبلة، ستكون مزمنة وستحدث في المناطق البدوية التي لازالت فيها القبيلة هي البنية المعبرة عن أشكال الهوية، واعتبر أن هذه الحروب المزمنة، ستشكل تحديا كبيرا أمام الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، وأن الحل لتدبير هذه الحروب المقبلة يمر عبر الاندماج الاقتصادي والسياسي والجهوي لهذه المناطق والأقاليم.
بين إشكالات الحدود الموروثة عن الاستعمار وورشات التفكير، في سبل مواجهات الحروب المزمنة المتصلة بتنامي نزوعات الانفصال، كيف تعاطت الممارسة الدولية مع الحق في تقرير المصير في ارتباطه في الحق في سلامة الوحدة الترابية؟
أ. مسألة كتانكا
وهي عبارة عن مقاطعة تقع جنوب الكونغو الديموقراطية، وقد كانت تسمى مقاطعة شابا في عهد موبوتو سيسوكو )الزايير سابقا(، وتقع على الحدود مع زامبيا عاصمتها الإدارية لوبومباشي، وتتكون من أربع مقاطعات، وقد شهدت حربا ضروسا مع الدولة المركزية وطالبت بالاستقلال عن الكونغو الديموقراطية، لكن اللجنة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب رفضت تمكين المقاطعة من تقرير المصير وأقرت بأن “كتانكا ملزمة باختيار بديل أخر عن تقرير المصير الخارجي، يتلاءم واحترام السيادة والوحدة الترابية لدولة الزايير )الكونغو الديمقراطية حاليا(. القرار صدر في 1995.
وغير خاف أن تأييد تقرير مصير شعب كتانكا كان سيفتح المجال نحو إعادة رسم الخريطة بالبحيرات الكبرى.
ب. مسألة ناميبيا
باعتبار ناميبيا مشكّلة من عرقيات وقوميات مختلفة، فإن جنوب افريقيا، طالبت بتمكين كل القوميات والشعوب المشكلة لناميبيا بتقرير مصيرها، وجراء هذا الخلاف عرضت المسألة الناميبية على محكمة العدل الدولية التي أقرت حق تقرير مصير كافة شعب ناميبيا، بصرف النظر عن تعدد العرقيات والقوميات.
ج. مسألة جنوب افريقيا
لا تتردد جنوب افريقيا في الجهر بمساندة مبدأ تقرير مصير الشعوب، إلا أن جنوب افريقيا نفسها قررت مصيرها إزاء حالة لبرتايد ممثلة في منظومة الفصل العنصري بين البيض والسود، لكنها بالمقابل لم تعمل على تمكين مختلف الشعوب والقوميات المشكلة لها على تقرير مصيرها.
د. مسألة جزر مايوت
خضعت جزر القمر بما فيها جزيرة مايوت للاستعمار الفرنسي، وقد سعت فرنسا في محاولة منها للحفاظ على مصالحها الجيو استراتيجية في هذه المنطقة إلى فصل جزر مايوت عن جزر القمر، حيث عملت على تنظيم استفتاء شعبي بالجزيرة، وافق بأغلبية ساحقة على استقلال الجزيرة في سنة 1976، لكن الأمم المتحدة اعتبرت هذا الاستفتاء الذي صوت لصالح الانفصال بنسبة 99 في المائة باطلا، كما اعتبرت أن أي استفتاء سيجري لاحقا في الجزيرة يعد خرقا لسيادة دولة القمر ووحدتها الترابية.
ه. مسألة إقليم الكيبيك بكندا
رفضت المحكمة العليا بكندا الاعتراف بحق انفصال مقاطعة الكيبك معتبرة أن سكان هذا الإقليم يعدون جزءا من الشعب الكندي الذي يتمتع بحقه في تقرير المصير بمجموعه.
لقراءة الملف الكامل الذي خصصته مجلة “لسان المغرب” لهذا الموضوع، يرجى الضغط على الرابط.