story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

بكاء القارة العجوز

ص ص

أحد أهم الأحداث التي عرفتها الأسابيع الأخيرة والتي سيكون لها وقع على مستقبل العالم، مشهد بكاء رئيس مؤتمر ميونخ للأمن كريستوف هويسغن خلال أحداث المؤتمر لهذه السنة. هويسغن أجهش بالبكاء خلال إلقاء خطابه الذي شكر فيه الشركاء الأوروبيين على التزامهم بقيم الديمقراطية وسيادة القانون، وأكد فيه استمرار وقوف أوروبا إلى جانب أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

خطاب الديبلوماسي الألماني جاء في أعقاب خطاب ناري صدر عن نائب الرئيس الأمريكي جيه دي ڤانس خلال نفس المؤتمر. الفرقاء الأوروبيون كانوا على استعداد لسماع بعض اللوم من طرف الشريك الأمريكي بسبب عدم التزامهم بالإنفاق العسكري المتفق عليه بين أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي، كما كانوا مستعدين لسماع بعض اللوم بسبب نسبة إنفاق الولايات المتحدة على الحرب في أوكرانيا مقارنة بالأوروبيين. لكن ما لم يكن ينتظره المشاركون في مؤتمر ميونخ لهذه السنة هو تقريع نائب الرئيس الأمريكي لهم حول تخليهم عن قيم الديمقراطية والحريات الأساسية وعلى رأسها حرية التعبير.

ڤانس أعطى أمثلة حية ليدعم ملاحظاته، أولها ضغط الأوروبيين من أجل إلغاء نتائج انتخابات في رومانيا بدعوى التدخل الروسي في أطوار الانتخابات. وأعطى كذلك مثالا عن تخلي الأوروبيين عن حرية التعبير من خلال الإشارة إلى الحملة الشرسة التي تقودها دول أوروبية عديدة —على رأسها ألمانيا— ضد أشخاص نشروا تدوينات على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضها يدل بدون شك على تراجع خطير في مدى تقبل السياسيين في أوروبا للخطابات المختلفة (في واحدة من الحالات، ألقت السلطات الأمنية القبض على شخص وغرمته بسبب نعت أحد السياسيين بالعضو التناسلي للرجل، وهي عبارة متداولة في ألمانيا ودول غربية أخرى كثيرة).

في مؤتمر حول الأمن، وفي ظروف عالمية مشحونة وعلى شفا حفرة من اندلاع حرب عالمية، وفي الوقت الذي يجب على أوروبا أن تسوق صورة حازمة وقوية لردع خصومها، تأتي صورة رئيس المؤتمر وهو يجهش بالبكاء لتضرب أي فرصة لتسويق القوة والحزم. لكم أن تتخيلوا كيف كان ينظر فلاديمير بوتين أو شي جين بين لهويسغن وهو غير قادر على السيطرة على مشاعره. بكل تأكيد، هؤلاء القادة وغيرهم سيترجمونه إلى أنه تعبير عن ضعف بنيوي يصيب الجسم الأوروبي، الذي صار متجاوزا وتابعا لمراكز قوة أخرى وغير قادر على رسم مستقبله لوحده.

نموذج آخر على الضعف الأوروبي وتجاوزه من قبل فاعلين آخرين هو ما وقع في اجتماع السعودية قبل أسابيع كذلك، حيث التقت الولايات المتحدة بنظيرتها روسيا بوساطة سعودية، ودون حضور الأوروبيين. الأمريكيون والروس جلسوا على طاولة الحوار لمناقشة أمثل طريقة لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، دون حضور الأوكرانيين كذلك. الكثير من الخبراء يقارنون ما وقع في اجتماع السعودية بلقاءات تاريخية سابقة كقمة يالطا وقمة جينيف. حيث أن المشاركين في الاجتماع في السعودية وضعوا مصالح بلدانهم قبل كل شيء، وكيف يمكنهم نحت موقع مريح في عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة بما يحمي مصالحهم وأمنهم القومي.

تتعدد الأمثلة على تراجع دور أوروبا في الرقعة العالمية، من تراجع البحث العلمي في قطاع التكنولوجيا والمجال العسكري، إلى عجز دول أوروبية كثيرة عن إنتاج ما تحتاجه من ذخائر حربية، بالإضافة إلى المعطى الديمغرافي الذي يتسم بانهيار معدل الخصوبة في معظم دول أوروبا، وانتهاء بصعود صاروخي ونسقي لأحزاب اليمين في كل أرجاء القارة العجوز، كلها أعراض تدل على بكاء القارة العجوز كما يبكي رئيس مؤتمرها للأمن. لذلك، فإن لم تتحرك أوروبا في أقرب الآجال، فستجد نفسها بدون أي دور من أدوار قيادة العالم، وتنتهي بها الأمور إلى مرحلة من الصراع الداخلي الذي لا نعرف ما يمكن أن يخلفه عليها وعلى جيرانها وعلى العالم.