بعد تدشينها.. كيف ستشتغل المكاتب القضائية داخل ملاعب كأس إفريقيا؟
بمناسبة احتضان المملكة المغربية لكأس إفريقيا للأمم لكرة القدم 2025، أعلنت وزارة العدل عن تدشين مكاتب قضائية داخل الملاعب التي ستحتضن مباريات هذه التظاهرة القارية، في خطوة تندرج ضمن الاستعدادات المؤسساتية المواكبة للحدث، وتهدف إلى تعزيز تدبير القضايا القانونية التي قد تثار في الفضاءات الرياضية.
وفي توضيحه لتفاصيل هذه المكاتب، أكد المستشار القانوني أمين الفتحي أن الفضاء الرياضي، بحكم كثافته الجماهيرية وتعدد الجنسيات وارتفاع منسوب الانفعال، أصبح مجالاً يتقاطع فيه التنظيم الأمني مع مقتضيات النظام العام وسيادة القانون، ما يستدعي آليات قانونية قادرة على التفاعل الفوري مع الوقائع المحتملة.
وأوضح الفتحي في حديثه لصحيفة “صوت المغرب”، أن تدشين مكاتب قضائية داخل الملاعب، وفي مقدمتها مركب الأمير مولاي عبد الله بالرباط، لا يهدف إلى إحداث محكمة داخل الملعب، ولا إلى خلق مسار قضائي استثنائي خارج المنظومة القضائية القائمة، بل يندرج في إطار إرساء آلية مؤسساتية جديدة لتدبير القضايا المرتبطة بالمنافسات الرياضية”.
وفي هذا السياق، شدد المتحدث على أن “الغاية الأساسية من هذا الإجراء تتمثل في ترسيخ منطق قضاء القرب بمعناه الوظيفي، أي تقريب تدخل النيابة العامة من مكان وقوع الواقعة، بما يسمح بالتفاعل السريع والفعال مع الحالات المحتملة دون المساس بالضمانات القانونية”.
ويقوم هذا التصور، حسب الفتحي، على تمكين النيابة العامة من اتخاذ القرار الإجرائي المناسب في زمن وجيز، مع الحفاظ على حقوق الأفراد وضمانات المحاكمة العادلة، وفي الوقت نفسه الإسهام في الحفاظ على النظام والأمن داخل الملاعب وتخفيف الضغط على المحاكم.
وعمليا، تشتغل هذه المكاتب القضائية كحلقة وصل ميدانية بين الضابطة القضائية والنيابة العامة، حيث تتولى الأولى معاينة الوقائع وجمع المعطيات وإنجاز المحاضر بعين المكان، قبل إحالتها على ممثلي النيابة العامة المتواجدين داخل المكتب.
وتتكلف النيابة العامة، في هذا الإطار، بالتكييف القانوني الأولي للوقائع واتخاذ القرار الإجرائي المناسب بحسب طبيعتها وخطورتها، سواء تعلق الأمر بتفعيل بدائل قانونية أو بإحالة الملف على المسطرة القضائية العادية.
وأشار الفتحي إلى أن تدخل ممثلي النيابة العامة يتم بتنسيق وثيق مع المصالح الأمنية والسلطات المختصة، في إطار تصور يقوم على توحيد الجهود داخل الفضاء الرياضي لضمان الأمن القضائي للجمهور، وليس الاكتفاء بتأمين الجانب المادي للمكان.
ومن حيث طبيعة القضايا المستهدفة، أوضح المتحدث أن هذه الآلية موجهة أساساً لمعالجة القضايا الزجرية البسيطة المرتبطة بالمنافسات الرياضية، وعلى رأسها حالات الشغب والسلوكيات التي قد تخل بالنظام العام داخل المركبات الرياضية أو بمحيطها المباشر.
ولا يقتصر نطاق هذه الوقائع، بحسب الفتحي، على الشغب فقط، بل قد يشمل صوراً متعددة من قبيل العنف أو المشاجرات، إتلاف الممتلكات والمنشآت، السرقة أو النشل وسط الازدحام، الاعتداءات اللفظية الجسيمة، أو إدخال ممنوعات تهدد سلامة الجمهور.
وأكد أن هذه السلوكيات تُعد من الوقائع الشائعة في التظاهرات الرياضية الكبرى، ما يستدعي تأطيراً قانونياً صارماً يوازن بين متطلبات الردع من جهة، واحترام الضمانات القانونية وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
وفي ما يتعلق بآليات الاشتغال، أوضح الفتحي أن المكاتب القضائية ستتلقى المحاضر المنجزة من طرف الضابطة القضائية بعين المكان، وتتخذ بشأنها الإجراءات القانونية المناسبة وفق ما يتيحه قانون المسطرة الجنائية.
ويشمل ذلك، حسب المعطيات المنشورة، تفعيل البدائل القانونية للدعوى العمومية في الحالات التي يسمح بها القانون، إلى جانب تدبير المتابعات في حالة سراح بالنسبة للقضايا الزجرية البسيطة التي تستوجب هذا الإجراء.
وبمعنى آخر، شدد الفتحي على أن “هذه المكاتب ليست فضاءات لإصدار الأحكام، وإنما فضاءات لتسريع القرار الإجرائي للنيابة العامة، من خلال تحديد المسار القانوني الأنسب لكل واقعة دون المساس بمبدأ التقاضي أمام القضاء”.
ويتأسس هذا الاشتغال، وفق المتحدث، على قاعدة جوهرية مفادها أن السرعة المطلوبة لا تعني التسرع، وإنما تقليص الزمن الإداري الفاصل بين وقوع الواقعة وبداية مسارها القضائي تحت إشراف النيابة العامة.
ولضمان نجاعة هذا التدبير داخل بنية الملعب، جرى تجهيز فضاء خاص داخل مركب الأمير مولاي عبد الله يضم مكتباً للتقديم والاستماع، وآخر لتحرير الإجراءات، إضافة إلى مكتب للأداء تابع لصندوق المحكمة.
كما تم، بحسب الفتحي، توفير خدمات الترجمة الفورية لفائدة المشجعين الأجانب، بما يضمن ولوجهم إلى العدالة في ظروف ملائمة، ويحول دون المساس بحقوقهم الإجرائية بسبب عائق اللغة.
وتكشف هذه العناصر، حسب المتحدث، عن تصور وظيفي متكامل يقوم على الاستقبال والاستماع والتوثيق، وربط الإجراءات بالمقتضيات القانونية، مع توفير الخدمات العملية المواكبة، خاصة في الحالات التي يكون أحد أطرافها من الأجانب.
أما من حيث الرقابة، فأوضح الفتحي أن هذه المكاتب تشتغل داخل دائرة اختصاص النيابة العامة وتحت سلطتها التسلسلية، حيث تسند المعالجة الميدانية إلى نواب وكيل الملك بمساعدة موظفي كتابة النيابة العامة.
وتتمثل الرقابة الأولى في إشراف النيابة العامة على أعمال الضابطة القضائية وتوجيه المحاضر، باعتبار أن هذه الأخيرة تعمل قانوناً تحت إشرافها في ما يتعلق بالأبحاث التمهيدية وتوجيه الملفات.
في حين تتمثل الرقابة الثانية في الرقابة القضائية اللاحقة، إذ إن أي إحالة على المحكمة تخضع لتقدير القضاء الجالس وفق ضمانات المحاكمة العادلة، ما يجعل المكتب مجرد محطة إجرائية لا تحصن القرارات من الرقابة القضائية.
وفي المحصلة، يراد من إحداث هذه المكاتب تكريس نموذج حديث في تدبير القضايا المرتبطة بالفضاءات الرياضية، يجمع بين متطلبات الأمن والنظام العام من جهة، ومتطلبات الشرعية الإجرائية وحماية الحقوق والحريات من جهة ثانية.
وتحمل هذه المبادرة، وفق ما خلص إليه الفتحي، رسالة طمأنة مفادها أن الملعب فضاء للمتعة والمسؤولية، وليس منطقة فراغ قانوني، مع توقع تعميم التجربة على باقي الملاعب التي ستحتضن مباريات كأس إفريقيا، في أفق تثبيت هذا النمط كجزء من المنظومة التنظيمية للتظاهرات الكبرى.