story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ايت بوكماز نموذجًا لاختلال العدالة المجالية

ص ص

يستعد المغرب بوثيرة جد مرتفعة على كل المستويات لاحتضان كل من كأس الأمم الإفريقية سنة 2025 ، وكأس العالم لكرة القدم سنة 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال، وإذا كانت هذه الاستحقاقات تندرج ضمن جهود تموقع بلدنا على الصعيد الدولي، فإنها تطرح في المقابل تساؤلات ملحة حول واقع العدالة المجالية والتنمية داخليا، ذلك أن الاستثمار في البنيات التحتية والمرافق الرياضية الكبرى، رغم أهميته، يكشف في المقابل عن التفاوتات الصارخة بين المركز والهامش، خصوصًا في المناطق التي تعاني من هشاشة مزمنة، كما هو الحال في عدد من الأقاليم المهمشة في المغرب العميق.

فلا جدال في أهمية هذه التظاهرات الكبرى من حيث رمزيتها السياسية ودورها في تعزيز صورة المغرب دوليًا، فضلًا عن أثرها الإيجابي المنتظر على مستوى البنيات التحتية والخدمات في المدن الكبرى ومحيطها. غير أن هذا التوجه، رغم وجاهته، يضع الدولة أمام تحدٍّ جوهري يتمثل في موازنةٍ صعبة بين الرغبة في التموقع على الخارطة الدولية كبلد صاعد، وبين الإلحاح الاجتماعي الداخلي على الوفاء بالحقوق الأساسية للمواطنين في الماء، والتعليم، والصحة، والعيش الكريم.

إقليم أزيلال، كغيره من أقاليم المغرب العميق، يُعدّ شاهدًا يوميًا على اختلالات العدالة المجالية، فالعشرات من الدواوير لا تزال تعاني من ندرة الماء الصالح للشرب، في وقت أصبحت فيه أزمة العطش معطىً هيكليًا يتجاوز التقلبات الموسمية، أما على مستوى التعليم، فالهدر المدرسي في صفوف الفتيات، وصعوبة الولوج إلى المدارس، وسوء تجهيزها، كلها مظاهر تُعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية والمجالية بشكل مستمر، ولا يختلف الأمر كثيرًا في قطاع الصحة، حيث المستوصفات القروية تفتقر للموارد البشرية والتجهيزات الأساسية، مما يجعل من الحق في العلاج امتيازًا لا يُتاح إلا لمن يستطيع مغادرة المنطقة نحو مدن أكثر تجهيزًا.

بطبيعة الحال، لا يمكن اختزال سياسة الدولة في هذه التظاهرات الدولية في مجرد ترف إنفاقي أو نزعة استعراضية كما قد يروج البعض من الخطابات العدميّة، فتنظيم مثل هذه الأحداث الكبرى يندرج ضمن منطق استراتيجي يروم تعزيز الدبلوماسية الناعمة، وتحفيز الاستثمار، وتحسين البنية التحتية والنقل، وهي كلها أهداف مشروعة ومطلوبة.

غير أن الإشكال يكمن في غياب توازن عادل في توزيع آثار هذه المشاريع، بما يجعل مناطق بكاملها في منأى عن الديناميات التنموية، بل أحيانًا منسية من الخارطة السياسية والإعلامية.

هنا تكمن الخطورة اي حين يشعر جزء من المواطنين أن الوطن يتقدم بدونهم، بل على حساب معاناتهم، يفتح ذلك الباب أمام حالة من القطيعة الرمزية بين المجتمع والدولة، وهو ما يشكل بيئة خصبة لتنامي الخطابات الشعبوية والعدمية، التي تجد في كل إنجاز فرصة لتبخيسه، وفي كل تعثر ذريعةً للتشكيك في جدوى الإصلاح وثقة المواطنين في المؤسسات.

إن نجاح الدولة في هذا المنعطف التاريخي لا يمر فقط عبر إتقان تنظيم التظاهرات الدولية، بل عبر قدرتها على جعل هذه اللحظات فرصةً لبلورة نموذج تنموي متوازن يُنصف الهامش، ويعيد الاعتبار لمناطق طال تهميشها. العدالة المجالية، في هذا السياق، ليست مطلبًا حقوقيًا فحسب، بل ضرورة سياسية وأمنية، فمناعة الدول لا تقاس فقط بما تبنيه من ملاعب وطرق، بل بما توفره من ماء وتعليم وصحة وفرص عمل لكافة أبنائها دون تمييز.

لذلك، فإن الرهان الحقيقي يكمن في تجديد التعاقد الاجتماعي والجهوي بين الدولة والمواطنين، على أساس الإنصاف في التوزيع، والاعتراف الفعلي بالحقوق، وعدم اختزال الوطن في واجهته المشرقة، بل الانطلاق من عمقه المتألم بوصفه قلب الوطن الحقيقي.

إن مغربًا يسطع في الخارج، ويُطفئ شموع الأمل في الداخل، هو مغرب يراهن على مستقبل هشّ، أما مغربٌ يصالح رمزيته الدولية بعدالته المجالية، فيستطيع أن يصمد أمام كل الأزمات، ويمنح لمعركة التنمية معناها الحقيقي. و ايت بوكماز، وكل مناطق الهامش، ليست عبئًا على الوطن، بل اختباره الأخلاقي والسياسي الأهم.