اليوم الأخير في حياة الحسن الثاني.. مات منشغلا بالوضع العربي
تحل هذه الأيام الذكرى 26 لوفاة الملك الراحل الحسن الثاني، بالتقويم الهجري. وفي الوقت الذي تهيمن فيه القضية الفلسطينية وحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وعدوانها على لبنان على الأحداث الحالية، كان الرئيس اليمني الراحل، علي عبد الله صالح، والذي كان آخر من التقى الملك الراحل الحسن الثاني بشكل رسمي، قد كشف كيف كان الملف الفلسطيني ولمّ الشمل العربي يشغل بال الملك الراحل في أيامه الأخيرة.
كان الملك حينها (صيف العام 1999)، كما لو يحتاج إلى من يؤنس وحدته ويتبادل معه أطراف الحديث. حلّ الرئيس اليمني الراحل بالمغرب يوم الأربعاء 21 يوليوز، وكانت الأجواء حينها يسودها نقاش عربي عربي حول إمكانية عقد قمة طارئة لتباحث الوضع الفلسطيني ورصّ الصفوف.
كانت الخلافات الكثيرة التي فرقت العرب تعيق محاولات التوحد، فكان صالح من بين المبادرين إلى لقاء الحكام العرب ومحاولة إنهاء الخلافات. وبما أنه كان قد زار الجزائر قبل المغرب، فإن صالح حاول حينها أن يحمل مؤشرات إيجابية للملك الراحل، وحكا له وهما يمشيان بهدوء قرب البحر في شاطئ الصخيرات، كيف أنه دافع عن الموقف المغربي في الصحراء أمام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
ما إن عاد الرجلان إلى القاعة التي احتضنت عشاء تلك الليلة، حتى عبّر الملك عن سعادته بما قاله له صالح، معتبرا أنه يدافع عن المغرب كما لو كان مغربيا.
“قابلته يوم الأربعاء في أول الليل، وجلست معه حوالي خمس ساعات، مدة شملت المقابلة ثم حفل العشاء الذي أقامه لي وحضره ولي العهد والأمير مولاي رشيد، ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الاستشاري ووزير الخارجية عدد كبير من المسؤولين”، يقول صالح في استجواب تلفزيوني بعد تلك الزيارة.
وأضاف صالح أنه ناقش مع الحسن الثاني “العلاقات الثنائية وجولتي إلى طرابلس والجزائر والدعوة لعقد القمة العربية بآلية جديدة… وكان تفكيرنا تفكير واحد، وهو ضرورة انعقاد القمة بآليات غير تلك السابقة، وطرحت عليه أنا الآلية الجديدة وهو حبذها، وهي أن نبتعد عن البروتوكول التقليدي المعتاد في انعقاد القمة العربية، أي أن نعدّ جدول الأعمال ثم يأتي الملك أو الرئيس بالوفد الذي يريد وعلى حسابه حتى نبعد مسالة الكلفة والبروتوكول، يحضر الناس ويبحثون جدول الأعمال، وما يتفق عليه يتم بحثه وما هو صعب يؤجل، الأساسي هو انعقاد القمة بآليات جديدة والخروج من المصالحات بين القيادات العربية. حتى لا نكون أقل شأنا من منظمة الوحدة الإفريقية التي تنعقد بانتظام، ونحن منذ 1982 في قمم طارئة”.
على مائدة العشاء، بدا الملك مرحا متفائلا، بل ومتوددا إلى وزيره الأول الذي خرج لتوه من وعكة صحية أدخلته المستشفى. تودد تجسّد في إعلانه أنه طلب تحضير طعام خاص يتناسب مع الوضع الصحي لوزيره الأول، وأضاف أنه وتضامنا مع اليوسفي سيأكل من نفس الطعام حتى لا يكون وحيدا في ذلك، رغم ما يتسم به ذلك الطعام من خصائص الحمية.
فهم الذين كانوا على علم بمرض الملك حينها، أن الملك حريص على حياة اليوسفي وسلامته لأنه ائتمنه على انتقال عرشه إلى ابنه، وأن أي مكروه يقع لمعارضه السابق، ستكون له عواقب وخيمة.
من نيويورك جاءت نذر الموت
كان جسم الملك الراحل كجميع بني الشر، يعاني بعض الأمراض والاختلالات، لكن ما أطلعه عليه الأطباء الأمريكيون عام 1995 كان مختلفا. القلب مريض لكن الخطر يتهدده من اعتلال الرئتين.
كان الحسن الثاني يومها في نيويورك الأمريكية للمشاركة في احتفالات الأمم المتحدة بالذكرى 50 لتأسيسها. أزمة حادة ألمت بالملك جعلت مرافقيه، يتقدمهم ولي عهده ووزيره الأول عبد اللطيف الفيلالي وسفيره في واشنطن محمد بنعيسى، يضطربون.
ورغم الصعوبات الظاهرة عليه في التنفس، تشبث الملك برفض الاستشفاء في الديار الأمريكية، إذ ليس الحسن الثاني من يضع نفسه بين يدي أي كان. وفيما تردّد المرافقون، كان ولي العهد حاسما، وطالت إحدى غضباته التي ستشتهر في ما بعد، المترددين في نقل الملك إلى مستشفى أمريكي. وبعد خضوعه للفحص في أعلى مستويات تقدمه العلمي والتقني، كانت الصدمة قوية: الملك مريض مرضا خطيرا لن يمهله طويلا.
ظل مرض الحسن الثاني، منذ أن كشف عنه الأطباء الأمريكيون في مستشفى “نيويورك هوسبيتال”، موضوع تكتم صارم. فعلاوة على السر المهني الذي يلتزم به الأطباء عموما، كان مرض الحسن الثاني موضوع تعليمات صارمة داخل القصر الملكي، كي لا يكون محل أي تسرب من باب التأكيد على “أسرار الدولة” وحرصا على التقاليد المخزنية المرعية.
مباشرة بعد وعكة نيويورك تلك، حرص الملك الراحل على الظهور بمظهر المطمئن لحاله، وقال في استجواب مع مجلة “باري ماتش” الفرنسية: “احكموا بأنفسكم… أنا في حالة جيدة… المرض التنفسي الذي أصبت به قد لا يكون سوى مجرد انعكاس للامبالاتي… فأنا عنيد وأحب كثيرا ممارسة الرياضة، خاصة منها ممارسة السباحة في مسبحي الخاص وفي أي وقت شئت”. لكن علة القلب مضافة إلى مشكلته التنفسية، جعلت حياته معلقة بحبل رفيع.
قرر جاك شيراك، رئيس فرنسا التي من المؤكد أن جميع أجهزتها الاستخباراتية كانت تتابع بدقة الحالة الصحية للملك، تكريم الحسن الثاني قبل رحيله. ودعته ليحضر، أسبوعا بعد عيد شبابه وأسبوعا قبل رحيله، للمشاركة في الاستعراض العسكري الرسمي الذي تنظمه الجمهورية الفرنسية بمناسبة عيدها الوطني.
كان الحسن الثاني بذلك أول زعيم أجنبي يحظى بذلك الشرف والتكريم. لكن الصور التلفزيونية التي نقلت الحدث، أكدت أن أيام الملك باتت جد معدودة، وقدماه لم تعودا قادرتين على حمله طويلا.
“لقد أدركت كل شيء في اليوم الأول لاعتلائي العرش، عندما ذهبنا لصلاة الجنازة على جثمان والدي-رحمه الله- فنادى الإمام لصلاة الجنازة، صلاة جنازة يرحمكم الله، جنازة رجل”. وكان هناك حوالي مليوني شخص بالشوارع، وقد انتحر بعض المواطنين عندما شاهدوا جثمان والدي، وكانت عبارة “صلاة الجنازة يرحمكم الله.. جنازة رجل”، أكبر درس في التواضع تلقيته في حياتي”، يقول الحسن الثاني في كتاب “ذاكرة ملك”.
كبرياء مريض
التقى الملك الراحل الرئيس اليمني ليلة الأربعاء في جلسة مطولة بدا فيها وقد تحسّن، معنويا على الأقل. لكنه في اليوم الموالي، أي يوم الخميس 22 يوليوز، اتصل بمسؤول التشريفات، ليخبره بكونه يشعر بتعب شديد، وأمره بتأجيل ما كان مبرمجا في تلك الليلة إلى غاية يوم الاثنين.
“كان من المفروض أن يستقبل إحدى الشخصيات يوم الخميس مساء، فأبلغني بأنه أرجأ ذلك الاستقبال حتى يوم الاثنين لأنه يريد أن يخلد إلى الراحة. فشعرت بما شعرت به لتغير نبرات صوته وأجبته باللهجة المغربية: “الله يبارك في عمر سيدي، الله يحفظ سيدنا ويطول عمره”، وكانت هذه آخر الكلمات التي تبادلتها معه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته” يقول عبد الحق المريني في حوار مع جريدة “الشرق الأوسط”.
وعن آخر مرة رأى فيها الملك الراحل، قال المريني إنها كانت يوم الأربعاء 21 يوليوز، “ليلة استقباله الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، ولما انتهت مأدبة العشاء حوالي الساعة 11 ليلا وودع ضيفه، قبّلت يديه على العادة وفي قلبي شيء، وغادرت القصر الملكي بالصخيرات مكلوما”.
كانت نفسية وطباع الملك الراحل كانت قد تغيّرت كثيرا منذ وعكة نيويورك 1995. فمن بين آخر ما دار بين عبد الحق المريني وبينه فيما يخص تدبير الشأن الخاص للملك، أن المريني لاحظ نشر صورة للملك في إحدى الصحف المغربية، اعتبرها غير لائقة، فبادر الى استئذانه في الاتصال بمدير الجريدة و”تنبيهه” لذلك، فرد الملك بالقول: “لا داعي، فصورتي في قلوب جميع المغاربة”.
إلى جانب هذه السماحة واللطف، كان سلوك الملك يحمل بعض مظاهر التوتر والتشنج، لدرجة انطوى معها على نفسه، وابتعد عن بعض مستشاريه وأصدقائه. كما توترت علاقته بابن أخيه الأمير مولاي هشام، مما جعل هذا الأخير يغادر المغرب ابتداء من العام 1995.
مغادرة وغضب متبادل، تبدّد بمجرّد ما رنّ هاتف الأمير وهو نائم ليلتها في مقر إقامته في باريس، ولم يكن المتصل سوى ابن عمه ولي العهد سيدي محمد. فالملك أصيب بوعكة صحية، وأفراد العائلة جميعا استنفروا للحضور. كان مولاي هشام الشخص الوحيد الذي اتصل به ولي العهد، إلى جانب الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، لإخبارهما بمرض الملك وخطورة وضعه.
رغم تدخل أطبائه وتعبئة طاقات المصحة الملكية، كانت الاستعدادات جارية لنقله إلى فرنسا او سويسرا على متن طائرة طبية مجهزة. قبل أن يعود هاتف الأمير مولاي هشام ليرن في ساعة مبكرة من صباح الجمعة، والمتصل دائما هو ولي العهد.
كانت المكالمة حاملة لبشائر تحسن حالة الملك، واستعادته القدرة على الحديث إلى أبنائه وأطبائه. لكن سرعان ما ستعود الحالة لتتدهورن ويدخل الملك في إغماء نُقل على إثره على وجه السرعة إلى المستشفى الجامعي ابن سينا.
لم تعد بوادر التحسن أو بشائر العلاج لتطل على الملك وأسرته وكبار رجالات الدولة يومها، بل تأكد الجميع من أطباء مصلحة أمراض القلب في المستشفى أن النهاية دنت.
“حين وصلت إلى المستشفى على الساعة الواحدة والنصف زوالا، قال لي السيد محمد الشرقاوي، زوج الأميرة لالة ميلكة إن الأمر قد انتهى” يقول الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، اسماعيل العلوي، في تصريح صحافي أعقب إعلان وفاة الملك.
ملك يخاف الموت
من بين التحولات التي طرأت على سلوك الحسن الثاني وعاداته بعد دخوله في مرحلة “انتظار الموت”، أنه بات يواظب على زيارة كبار مسؤولي الدولة ووزرائها وشخصياتها كلما ألمّ بهم المرض أو أصابتهم وعكة صحية تتطلب استشفاءهم.
شهورا قليلة قبل رحيله، كان الحسن الثاني قد حلّ بنفس المستشفى الذي فارق فيه الحياة، أي مستشفى ابن سينا الجامعي، لعيادة وزيره الأول، وغريمه السابق عبد الرحمان اليوسفي. وبدا الحسن الثاني حريصا على إظهار هذا السلوك حين تحدث عن زيارته هذه لليوسفي في آخر خطاب ألقاه على شعبه قبل الرحيل.
كما كان الملك الراحل قد أقدم على زيارة كل من الزعيم الصحراوي خطري ولد الجماني، والذي رقد في المستشفى نفسه بعد إصابته بشلل نصفي، ثم الوزير الأول السابق لحكومة التناوب، عبد اللطيف الفيلالي، حين تعرّض لحادثة سير أصيب خلالها بجروح. لهذا بدا الملك الراحل حين أُدخل المستشفى نفسه لتلقي العلاج ساعات قليلة قبل رحيله، عارفا بالمكان ومعتادا عليه.
لم يعد الملك الراحل يتوجه إلى مسالك الكولف الكثيرة التي أسسها في المملكة بفعل إعجابه بتلك اللعبة ومواظبته عليها، وبات أكثر انطواء على نفسه، قليل الظهور وكتوما على نحو يعكس توجسه وقلة ثقته في المحيطين به.
فيما كانت طبيعة مرضه الذي يحتّم عليه الابتعاد عن السواحل كي لا يتأثر بالرطوبة، تفرض عليه الإقامة في جل الأوقات بمدينة مراكش ذات الجو الصحي. وبات الملك يقدم على قرارات تنقله وخروجه ودخوله بشكل فردي ومزاجي، مسببا ارتباك خدمه ومعاونيه.
تقول المصادر التي تابعت الأيام الأخيرة من حياة الملك الراحل، إنه عاد إلى الرباط على متن القطار بشكل مفاجئ، وأنه بدا كثير التوتر وعميق التفكير. لكنه رغم ذلك كان مصرا على التجوّل في ردهات قصره الرباطي، وتفقد سيره العادي، حتى أنه فاجأ صناعا كانوا في قاعة مجاورة لقاعة العرش، حين أطل عليهم يومين قبل وفاته مطالبا إياهم بالتعجيل بإنهاء عملهم في تلك القاعة لكونه سيستقبل ضيوفا كثر، كما لو كان يحضر لجنازته المهيبة.
فيما آلمته قصة هشام المنظري، الشاب الذي عمل داخل قصره، ثم أقدم على سرقة بعض وثائقه وأمواله، منها ما سُرق من داخل الغرفة الشخصية للملك.
“الكائن البشري كائن ضعيف وهش ومتناه. وهذا الشعور ينهش قلب كل كائن فتراه يتحايل عليه استجابة أو إخفاء بألف وسيلة ووسيلة: بكسب المال أو مراكمة الممتلكات والخيرات، أو بتحصيل مظاهر الحظوة الرمزية والمعنوية في مختلف المجالات الثقافية والرمزية…” يقول المفكر الراحل محمد سبيلا، قبل أن يضيف أن “السلطة تمنح لصاحبها هذا الدواء السحري الذي يطفئ لظاه ويستجيب لتعطشه عن طريق التشبه اللاواعي بالذات الإلهية. السلطة ترفع صاحبها فوق مستوى البشر العاديين، الفانين، المحتاجين، وتجعلهم هم، أي البشر، في حاجة إليه… إن مكانة السلطة هي مكانة فوق بشرية في أعين أصحابها وحملتها أولا، ثم في أعين مستهلكيها ورعاياها ثانيا… وليست طقوس البهاء والفخامة، من كراسي فارهة وملابس مزركشة من سندس واستبرق، ومن ألوان زاهية وموسيقى صاخبة ورسوم وتمائم وأشكال، ومن بنايات فخمة توحي بالوجاهة والسمو، والوقار والجدية، التي تحد من القهقهة وتحجمها الى مجرد ابتسامة وقورة ماكرة، ناهيك عن الممارسات الفاتنة الأخرى: المشية المتأنية المتأنقة والكلمة المدروسة “الحكيمة”، والسيارات الفارهة طولا وعرضا هي ما يولد هذا الشعور العظامي التشبهي، بل إن هذه الطقوس والممارسات هي استجابة لهذا الشعور العظامي التشبهي وتشخيص له في الملموس”.
فيما يرى الفيلسوف فانسون طوماس، أن “البحث عن السلطة يمكن أن يكون مجرد وسيلة رمزيةـ سحرية، لمقاومة القلق الناتج عن شعور المرء بأنه سيموت. فتهافت الناس من أجل الحصول على ذرة من السلطة المالية أو السياسية، لا يفسر فقط بهمهم من أجل الحصول على المتع والخيرات أو برغبتهم في الحصول على الهيبة الناتجة عن الجاه والمكانة المتميزة، بل إن هذا التهافت ناتج عن الحاجة الملحة الى مراكمة الحياة، وبالتالي إبعاد الموت.
التصرف في حياة الناس هو الوجه الآخر، غير المعبر عنه، للإفلات الذاتي من الموت، عن طريق تعريض الآخرين لها”. خوف اعترف به الملك الراحل في احد استجواباته، حين قال: “في الحقيقة لا يكون الانسان أبدا مهيأ للحكم، لأن هناك دائما هوة حقيقية لابد من تخطيها. ولما توفي أبي، صرت كالميت الحي، لأنني دفنت ولي العهد… دفنت حريتي وشعوري بأنني محمي بمظلة الراعي كيفما كانت الأحوال… كنت حتى ذلك الوقت أعيش حياة العزوبية طليقا حرا كالهواء، لا أتقيد إلا بالمواقيت التي كان والدي يرى إلزامي بها”.
ملك مات في مستشفى الشعب
يتذكر أحد العاملين الذي كان حاضرا يومها أن الساعة كانت قد تجاوزت الحادية عشرة عندما حاول الاتصال بزميل له بجناح آخر بنفس المستشفى على هاتفه النقال، وعندما تعذر عليه ذلك حاول أن يطلبه على الهاتف الأرضي داخل المستشفى، فأخبرته موظفة “الستاندار” بأن كل الخطوط معطلة.
داخل الأروقة والأجنحة، لاحظ العاملون والمرضى حركة غريبة لأناس غرباء احتلوا المبنى يمنعون الدخول أو الخروج من وإلى الأجنحة.
بدأ العاملون بالمستشفى يطلون من النوافذ بعد أن منعوا من مغادرة أماكن عملهم، وفي باحة المستشفى أمام مدخله الرئيسي كانت سيارات كبيرة بيضاء وسوداء من نوع “فاركونيت” تقف متكدسة في الساحة التي ضاقت بما رحبت، وما بين هذه السيارات والمدخل الرئيسي لجناح جراحة القلب، نشطت حركة دؤوبة لأفراد من موظفي القصر لم تكن العين لتخطئهم بجلابيبهم البيضاء و”شاشياتهم” الحمراء… كانوا يقومون بإنزال أشياء لا أحد يعلم ماهيتها يحملونها داخل أواني الـ”طيفور” التقليدية على رؤوسهم، وكأن الأمر يتعلق بعرس أو بحفل تقليدي أو بمناسبة من تلك التي تتطلب حمل الهدايا داخل “الطيفور”.
كانت الدقائق تمر بطيئة داخل المستشفى، ومع مرور الوقت كانت الشائعات تتناسل والتكهنات الأكثر مأساوية تسيطر على الرؤوس المشرئبة من النوافذ والمقطوعة عن العالم الخارجي، وهي ترتقب ما ستحمله الساعات المقبلة من مفاجآت لم يعد التنبؤ بمأساويتها خافيا على جل العاملين بالمستشفى، الذين فاجأهم التصرف الغريب لموظفي القصر الذين انتابت حركتهم فوضى عارمة، وهم يعيدون الأثاث الذي حملوه قبل ساعات إلى داخل المستشفى، يرمون به في حركات منفعلة داخل السيارات التي أقلتهم وانطلقت مسرعة عائدة من حيث أتت.
كان الجناح المخصص لجراحة القلب، أكثر الأجنحة الذي ضربت عليه حراسة مشددة، ولم يسمح بدخوله إلا لكبار الأطباء الاختصاصيين، لذلك لم يتسن لباقي العاملين بالمستشفى أن يعرفوا ما يجري بداخله، حتى وصلت إلى سمعهم صرخة امرأة مدوية أقرب إلى الولولة منها الى الصراخ، هزت أركان المستشفى ورددتها الممرات الباردة حتى بعثت القشعريرة في الأجساد التي أنهكها الانتظار ونهشها القلق.
عندها فقط سيخرج من يقول للعاملين بالمستشفى “مات الملك عاش الملك”.
اختفاء “خاتم الحكمة“
تلتصق بعض الرموز والإشارات بالمخيلة لدرجة يصبح غيابها مثيرا ومدعاة للتساؤل. لهذا استغرب الجميع بعد نقل جثمان الملك الراحل من المستشفى إلى القصر الملكي لإقاء النظرة الأخيرة عليه من طرف أبنائه ومقربيه، كيف أن “خاتم الحكمة” الذي اعتاد الجميع رؤيته في إصبع الملك غير موجود في خنصر يده اليسرى، واعتقد البعض أن الملك تعرّض “للسرقة” حتى وهو ميت بعدما تعرض لها وهو على قيد الحياة.
بعد أسبوع كامل من الغموض، توجه الملك محمد السادس رفقة شقيقه الأمير مولاي رشيد إلى المستشفى لشكر الطاقم الطبي الذي قدم الإسعافات الأخيرة للملك الراحل. فبعدما جاء الملك الجديد على متن سيارة مرسديس رمادية اللون، كان يسوقها بنفسه والى جانبه شقيقه الأمير مولاي رشيد، وفي الطابق الخامس من مستشفى ابن سينا، كان ينتظرهما عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول وإدريس البصري وزير الداخلية، والطاقم الطبي الذي أشرف على إمداد الملك الراحل بآخر الإسعافات، وفي تلك اللحظة سيخرج أحد الأطباء، خاتم الحسن الثاني من جيبه ويعيده إلى الملك الحالي.
ففي اللحظات الأخيرة من حياة الحسن الثاني، اضطر الأطباء بعد أن نفدت كل الجهود لإبقاء الملك الراحل على قيد الحياة، الى استعمال الصدمات الكهربائية ليستعيد القلب نبضه، وفي هذه الحالة يكون ضروريا سحب كل الأجسام المعدنية التي تكون ملتصقة بجسم المريض، مما اضطر أحد الأطباء الى سحب خاتم الملك الراحل وظل يحتفظ به حتى أتيحت له الفرصة لإعادته إلى الملك الجديد شخصيا.
كانت وكالة الأنباء الفرنسية كنت أول من أعلن الخبر في جملة قصيرة تقول إنه وحسب مصادر من القصر الملكي، فإن الحسن الثاني فارق الحياة.
تناقلت وسائل الإعلام الدولية الخبر واحدة تلوى الأخرى. فيما كان على قنوات الإعلام العمومي انتظار الترتيبات، ونشر التعزيزات الأمنية حول مقر الإذاعة والتلفزة، واستدعاء الصحافيين والمسؤولين الذين كانوا في عطلتهم الصيفية.
انقطع البث فجأة، وشرعت القناتان العموميتان في بث تلاوة للقرآن. وفيما توفي الملك على الساعة الرابعة عصرا، لم تعلن القناة الأولى الخبر سوى في الساعة الخامسة، بينما واصلت القناة الثانية بث برامجها عندما كانت زميلتها الأولى تبث القرآن الكريم، إلى أن تلقت الأوامر.
بيعة فوق الدستور
بينما انتقلت فرقة تقنية إلى القصر الملكي من أجل تسجيل أول خطاب للملك محمد السادس، كان على محترف تغطية الأنشطة الملكية، الصحافي مصطفى العلوي أن يقطع عطلته ويعود إلى دار البريهي. وكان موعد ظهوره الساعة الثامنة، حيث أطل على المغاربة باكيا ومنهارا، ليقول لهم: صاحب الجلالة يخاطبكم” في إشارة لانطلاق بث أول خطاب لمحمد السادس.
بمجرد ما أعلن رسميا رحيل الملك الذي لم يعرف ثلثا المغرب غيره حاكما لهم، ودخلت البلاد والعباد في حالة من الذهول والصدمة الشديدين؛ بدأت المشاورات والاستعدادات لتنصيب الملك الجديد.
اعتبر البعض، مثل المستشار الملكي أندري أزولاي، أن دستور المملكة واضح وحسم الأمر، وأن ولي العهد يُعتبر ملكا بمجرد موت الملك، وبالتالي لا داعي للاستعجال في القيام بأداء البيعة.
لكن آخرين كانوا حاضرين في تلك المشاورات التي انطلقت من المستشفى واستمرت إلى وقت متأخر من ليلة الجمعة، أمثال الراحلين عبد الكريم الخطيب والمحجوبي احرضان، أصروا على ضرورة أداء البيعة فورا وعدم ترك البلاد بدون ملك ولو لحظات قصيرة.
فيما كانت جل الاتصالات والتحركات تشير إلى ان وزير الداخلية حينها، الراحل إدريس البصري، جاءت نهايته بموت “سيده”. حيث أصابته غضبة شديدة من بعض كبار العسكريين بعد تعثر بعض الاتصالات الهاتفية المكثفة التي كانت تجري لاستدعاء المسؤولين وكبار رجالات الدولة لأداء البيعة، فظنوا أن وزير الداخلية مسؤول عن التشويش الحاصل. ولم يفضّ النزاع بينه وبين أحد كبار الجنرالات سوى تدخل أميري.
كانت قد مرت ساعة تقريبا على وفاة الملك الحسن الثاني، وأخذ التلفزيون والإذاعة يبثان تلاوة القرآن الكريم، فيما عاد الأمير وولي العهد سيدي محمد إلى القصر صحبة شقيقه الأمير مولاي رشيد لمباشرة عملية انتقال الملك بنفسه، فهو كان المهندس الفعلي لكل مراسيم انتقال الملك.
من قابلوا ولي العهد آنذاك فاجأتهم رباطة الجأش التي كان يتحلى بها، وحرصه الكبير على احترام أكثر التفاصيل دقة في البروتوكول. كان أول شيء باشره ولي العهد آنذاك هو الإشراف على الإعداد لمراسيم البيعة، وفي تلك اللحظات الحرجة كان من بين الشخصيات الكبيرة داخل الدولة الحاضرة داخل القصر الملكي عبدالكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ، الذي أمره ولي العهد بصياغة وثيقة البيعة رفقة المستشار الملكي عباس الجيراري.
كانت بعض الشخصيات الكبيرة تفد على القصر لتقديم التعازي ومباركة الخلافة لولي العهد في انتظار إنجاز وثيقة البيعة. وكان الأمير سيدي محمد قد حسم كل شيء بنفسه: مكان التوقيع على وثيقة البيعة، والأشخاص الذين سيمهرون الوثيقة بتوقيعاتهم، والموعد الذي حدد للتوقيع على مبايعة الملك الجديد.
في الساعة العاشرة ليلا كانت قاعة العرش، التي شهدت العديد من القرارات الكبيرة، غاصة بالشخصيات المدنية والعسكرية وبالعلماء. وكان عبدالكبير العلوي المدغري يقف ليتلو نص البيعة التي طوق بها الملك محمد السادس ملكه. وشاهد المغاربة كبار مسؤوليهم العسكريين والأمنيين يتقدمون إلى جانب الوزراء وأفراد العائلة الملكية للتوقيع على البيعة.
جنازة ملك
لا تتأكد قيمة ومكانة الشخصيات الكبيرة والعظيمة، إلا في مراسيم تشييع جنائزها. حينها فقط يظهر ما إن كان تقديرهم وتعظيمهم مرتبطا بقوتهم وقوة حضورهم، أم لمكانة حقيقية لدى الآخرين.
زعماء ورؤساء العالم حجوا عن بكرة أبيهم إلى المغرب بمجرد ما أعلنت وفاة ملكه الحسن الثاني.
قطع الرئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون، قع حملة لجمع التبرعات استعدادا لحملته الانتخابية، وغادر ولاية كولورادو على وجه السرعة لحضور مراسيم الجنازة. ووصل كلينتون على الرباط رفقة سلفه جورج بوش واثنين من كبار الوزراء السابقين للولايات المتحدة الأمريكية، واللذان ارتبط اسمهما بمسلسل السلام في الشرق الأوسط: جيمس وولكر ووارين كريستوفر.
فيما مثّل الرئيس جاك شيراك الجمهورية الفرنسية، وهو آخر من استقبل الحسن الثاني وكرّمه في العاصمة الفرنسية باريس. بينما رافق الأمير البريطانين شارلز، وزير خارجية المملكة المتحدة في تلك الجنازة المهيبة.
نبّه الحرس الخاص بالرئيس الأمريكي إلى عدم إمكانية حمايته على طول الكيلومترات الفاصلة بين القصر الملكي وضريح محمد الخامس، ودعوه بالتالي إلى عدم السير في تلك الجنازة. لكن بيل كلينتون أخلى مسؤولية حراسه، وأعلن تحمله شخصيا مسؤولية سلامته الأمنية، ومشى في الجنازة وسط ملايين المغاربة المصدومين الباكين.
إلى جانب كلينتون مشى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والرئيس المصري الراحل حسني مبارك، فيما حرصت إسرائيل على حضور كل من رئيس حكومتها إيهود باراك، ووزير خارجيتها دافيد ليفي، ورئيسها اللاحق شمعون بيريز. وكان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أول المسؤولين الأجانب الذين وصلوا الى الرباط، في عز قطع العلاقات وإغلاق الحدود بين البلدين.