story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

المواطنة الجريحة للمغربي المقهور

ص ص

يبدو أننا سنحمّل المؤسسات الدستورية المكلّفة في الأصل بالحكامة و”حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية” حسب منطوق الفصل 160 من الدستور؛ مسؤوليات إضافية، تجعلها تملأ الفراغات المتنامية من حولنا.

ففي الوقت التي تبدو فيه السياسة متصلبة كلحم الدابّة المسنّة، والمشاركة المجتمعية باردة كالرماد، ينبعث شيء جديد من ركام العلاقة بين الدولة والمواطن. ليس عبر الاقتراع، ولا في خطب الحملات الانتخابية، بل من عمق الشعور بالغبن ومن سطور التظلّم.

هذا ما تكشفه الوثيقة التي أصدرتها مؤسسة “وسيط المملكة” برسم تقريرها السنوي للعام 2024، وهي أول وثيقة تحمل بصمة رئيسها الجديد، حسن طارق، الأستاذ الجامعي والسفير السابق، الذي أبان عن نَفَس تأويلي رفيع، حوّل جرد الأنشطة إلى مرآة لمجتمع بأكمله.

هذا التقرير ليس وثيقة إدارية عادية، بل تمرينٌ في قراءة المواطن المغربي عبر شكايته. ليس باعتباره “متظلما” فقط، بل بوصفه مشروع “مواطن” قيد التشكّل، يحمل في لغته وعاطفته وشكواه مرآة لعلاقته المعقدة بالدولة والإدارة والسياسات العمومية.

لقد قالها التقرير ضمنيا وحرص حسن طارق في ندوته الصحافية صباح أمس على إعلانها صراحة: قد نكون أمام تحوّل نوعي في طبيعة الانسان المغربي، إذ لم يعد يشتكي فقط من موظف رفض توقيع وثيقة، أو إدارة أغلقت بابها، بل بات يتظلّم من برامج عمومية كبرى وسياسات اجتماعية حيوية.

في طليعة هذه السياسات والبرامج التي شكّلت موضوعا متكرّرا للتظلّمات، برز خلال سنة 2024 كل من برنامج “فرصة” الموجه لدعم المبادرات الفردية والتشغيل الذاتي (500 شكاية)، ومشروع تعميم التغطية الصحية والتقاعد باعتباره ركيزة مركزية في ورش الدولة الاجتماعية، إلى جانب تدبير آثار زلزال الحوز الذي شكّل اختبارا حاسما لقدرة الدولة على الاستجابة السريعة والمنصفة في حالات الطوارئ.

لأول مرة، لا تبدو الشكاية وسيلة لضبط أداء الإدارة، بل وثيقة لقياس مسافة خيبة الأمل بين الدولة ومجتمعها، حيث بدأت التظلّمات تنزاح من التماس الحلول الفردية، إلى مساءلة الخيارات العمومية.

فما الذي يمكن أن نقرأه في هذه التظلّمات؟

إنها ولادة “المواطن” في مرحلة المخاض، لكنه مواطن لا يخلو من التشوهات. رجل أربعيني، من ساكنة الحواضر، يكتب بلغته البسيطة، محمّلا بتجارب الخذلان، ويفضل أن يتوجّه إلى المركز –إلى العاصمة الرباط– رغم وجود فروع وتمثيليات لمؤسسة الوسيط في كل الجهات، لأنه لا يرى في الهامش سلطة، ويستعمل مفردات التوسل مرة، والدستور مرة أخرى، وكأنما يفاوض الدولة بين القلب والعقل…

هكذا رسم التقرير الجديد بروفايل المغربي المقهور.

وفي الخلفية، يغيب الشباب والنساء وتغيب المناطق البعيدة، في تذكير بأن هذه المواطنة الناشئة، حتى وهي مشوّهة ومعطوبة، لا تزال نخبوية من حيث التموقع الرمزي، حتى وإن كانت شعبية من حيث المعاناة.

لغة الشكوى نفسها، كما حرص التقرير على تحليلها، تعكس الفوارق الاجتماعية: شكوى الرجال مشبعة بالمفاهيم القانونية، أما شكوى النساء فصوت حميمي، مؤلم، مسكون بطلب الاعتراف أكثر من طلب الإنصاف.

ولعل أبرز ما تكشفه هذه الوثيقة هو أن مؤسسة “الوسيط” باتت تُرى كملاذ أخلاقي، لا فقط كهيئة قانونية. حين يخاطبها المواطن بـ”أنتم أملي الأخير”، فهو يحمّلها رمزية القاضي العادل، والأب الرحيم، أكثر من مجرد جهاز بيروقراطي. وهذا التحوّل في التمثّل، ينبغي أن يُقرأ كمؤشر على حاجة المغاربة العميقة إلى من يسمعهم، لا من ينظر في ملفاتهم فقط.

إننا بإزاء تحول بالغ الأهمية: لم يعد التوتر مع موظف سيء فقط، بل مع اختيارات عمومية تبدو للمواطن غير عادلة. وهذا بالضبط ما يضفي على لحظة التظلّم بعدها السياسي العميق.

إنها لحظة اشتباك مع السياسة، لكن من خارج السياسة.

لحظة ممارسة للمواطنة، لكن بوسائل بديلة عن صناديق الاقتراع والنقاش العمومي.

هنا، تكمن المفارقة الكبرى: بينما تسجل استطلاعات الرأي تراجعا في ثقة المغاربة بالمؤسسات المنتخبة، وانسحابا متزايدا من الفعل السياسي التقليدي، نشهد من جهة أخرى يقظة مواطنية تنمو داخل صمت المرافق، وداخل شكوى بسيطة موجهة إلى مؤسسة لا تملك سلطة التنفيذ ولا سلطة التشريع، بل سلطة الإصغاء فقط.

فهل نحن أمام مواطن مغربي جديد؟

ربما. لكنه “مواطن مكسور”، أو “مواطن مُنهك”، لم يتكوّن في هيئات التربية المدنية، ولا في ميادين النضال الجماعي، بل في مكاتب الانتظار وصفوف الإدارة وعزلة القرار.

مواطن يعرف معنى الحق، لكنه لا يجد إليه سبيلا سوى التوسّل.

المفارقة أن هذه الوثيقة التي تلتقط كل هذه التفاصيل المؤلمة، صدرت عن مؤسسة رسمية. وهنا تكمن شجاعتها، بل وفرادتها، في أن تحوّل الألم الاجتماعي إلى مرآة تحليل، لا إلى مجرد رقم.

لقد كتبت مؤسسة “الوسيط” تقريرا عن الظلم، لكنها كتبت معه بيان ميلاد “المواطنة الجريحة”.

ولأن هذه المواطنة لا تزال في طور التشكل، فهي بحاجة إلى رعاية حقيقية. لا عبر البيانات أو المناشدات، بل عبر إصلاح جذري يجعل من المرفق العمومي مساحة كرامة، ومن السياسة فعلا يسمع ويستجيب.

لقد آن الأوان لأن نكفّ عن النظر إلى شكايات المغاربة بوصفها مجرد طلبات خدمات إدارية، أو تعبيرا عن طلب فردي عابر؛ وأن نعيد قراءتها بما تستحقه من تأويل سياسي واجتماعي عميق.

فكل تظلّم يحمل بين سطوره بذور احتجاج، وكل رسالة تُودع لدى “الوسيط” تحمل سؤالا وجوديا عن معنى الدولة، وعن جدوى القانون، وعن العدالة الضائعة بين النص والممارسة.

إنها الصيغة البديلة لممارسة السياسة حين تفشل السياسة، والمنبر الشعبي حين تُقفل أبواب البرلمان، والنداء الخافت لمواطنة لا تُولد في قاعات التنظير أو برامج الأحزاب، بل في لحظة الغضب، حين يشعر المرء أنه وحيدٌ في مواجهة آلة صمّاء.

هذه الشكايات ليست ضعفا من المواطن المغربي، بل شجاعة. وهي ليست استسلاما، بل مقاومة ناعمة تنبثق من عمق الإحساس بالكرامة المهدورة.

إنها المواطنة المغربية في أقصى تجلياتها الصامتة: مواطنة لا ترفع الشعارات، بل تكتب بخط اليد أو الحاسوب؛ لا تقتحم الشارع، بل تنتظر الجواب ولو كان مجرّد طبطبة.

لكنها، رغم كل ذلك، تُعبّر عن شيء بالغ الأهمية: عن الرغبة في البقاء داخل العقد الاجتماعي، لا الانسحاب منه، وعن الإصرار على استدعاء الدولة إلى ضميرها، ولو برسالة بسيطة تُختم بعبارة: “أنتم أملي الأخير”.

إذا كنا نبحث حقا عن تجديد الحياة السياسية في المغرب، فلننظر أولا إلى هذا الرصيد من الشكايات كأكبر استفتاء غير مباشر على ثقة الناس في الدولة.

وإذا أردنا أن نُحيي الأمل في السياسة، فلنبدأ من هناك: من حيث يكتب المواطن الغاضب، لا من حيث يناور السياسي المرتبك.