story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

المهداوي “إش إش”

ص ص

ما قام به الزميل حميد المهداوي هذه الليلة لا يمكن ألا يكون له ما بعده، وإلا فلنقرأ على أرواحنا الفاتحة، ولنتقدّم طواعية وجماعيا، لنطلب ايداعنا جماعيا في متحف للمومياءات، لأننا سنكون أجساما بلا أرواح.

مع كل المحاذير والاحتياطات القانونية والأخلاقية، الأساسية والتكميلية، ومع كامل الحرص على احترام قرينة البراءة للجميع، ورفض كل أشكال التشهير و”شرع اليد” التي يمكن أن تُرتكب عبر النشر؛ يبقى ما شاهدناه الليلة الماضية أكبر من أن نتجاهله أو نتمهّل في التعليق عليه.

كنت قد حضّرت عناصر مقالي لهذا الصباح، حول موضوع آخر، على أن أقوم بكتابته صباحا، لكن ما فتحت عليه عيناي فجرا لا يسمح بأي تأخير: لقد فجّر صديقنا حميد “الدمّالة” وفاض القيح صديدا متعفّنا، وأي صمت هو في الأدنى جُبن وفي الأقصى تواطؤ وتستّر بعدما لم يعد هناك ما يمكن ستره.

المشاهد والعبارات والمواقف التي فرّجنا عليها حميد المهداوي هذه الليلة تسائل وجودنا الحضاري بالكامل.

نعم الحضاري، لأن ما شاهدناه يمسّ البناء المؤسساتي والدستوري والقانوني الذي جعلنا منه بيتا يؤوينا وسقفا يحمينا، وكنّا إلى وقت قريب نمنّي النفس بعدم الحاجة إلى الهدم، وبإمكانية الترميم والإصلاح.

واليوم لم يعد هناك من خيار سوى فتح الجراح وتنظيفها، وبتر ما تعفّن من أطراف، حفاظا على بقاء الذات الجماعية التي يقال لهه “دولة” و”وطن” و”أمة”.

وأول ما ينبغي الاحتياط منه، هو جرّ الموضوع إلى هامش النقاش، أي كيف صُوِّر ما شاهدناه؟ وهل سُرِّب؟ ومن المبادر؟ ومن المستفيد؟ أهو قانوني أم لا؟

صلب المسألة يوجد في قلب المصلحة العامة. وهذه الأخيرة تهتمّ بأسئلة أخرى بعيدة كليا عن كل ما سبق: ماذا يكشف المحتوى؟ وما أثره على حقوق الناس ونزاهة القرار؟

هذا ليس ترفا فكريا، هذه قاعدة ذهبية في المرجعيات الحقوقية الدولية.

في مثل هذه الحالات تُقدَّم الدلالة الحقوقية والاجتماعية لما تكشفه التسجيلات على ما عداها.

من هنا يبدأ الدفاع عن الصحافة، ومن هنا تبدأ حماية المهداوي الذي اختار أن يبلّغ وهو يحمل لواء المهنة، خصوصا بعدما أصابه اليأس من التبليغ عن أذى زوجته وأمه في محراب العدالة.

علينا أن نحذر من تصلّب الجدل حول “الطريقة” ونتهرّب من “المضمون”، لأننا حينها سنكون أمام وصفة جاهزة لدفن الحقائق.

كل المرجعيات الدولية الموثوقة والمعتدّ بها، بما فيها القضاء الأوروبي الذي يعتبر من مرجعياتنا الأساسية، كرّس قواعد واضحة في مثل هذه الحالة: المصلحة العامة أولا، ومدى مساهمة المادة في نقاش عام ثانيا، قبل طريقة الحصول على المعلومة، وصدقية المحتوى، وسلوك الناشر.

في قضايا عديدة مماثلة، رُجّحت كفّة حماية النشر حين يكشف المحتوى سلوكا يحتمل خرقا للقانون أو اعتداء على حقوق الناس، وإن استُخدمت أساليب متخفية. هذا ليس شيكا على بياض لاستباحة الخصوصيات، لكنه معيارٌ يمنع تحويل “أخلاقيات التصوير” إلى مظلّة للهروب من المساءلة.

أما الإطار الأممي فيبدو أكثر صراحة ووضوحا: اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تحثّ على حماية المبلّغين، وما يعرف ب”مبادئ تشواني” (The tchwane principles) تجعل المصلحة العامة سندا للكشف حتى في أجواء السرية. ولا يُسأل أحد هنا من أين أتاك التسجيل، بقدر ما يُسأل من تضعه التسجيلات في موقف شبهة واضحة وضوح الشمس.

نعم لحميد المهداوي اختيارات ومقاربات لا تلزم غيره، وهو الوحيد الموكول بالدفاع عنها، لكن دعم المهداوي اليوم ليس تقديسا لشخص ولا تبنّيا لأسلوب بلا شروط؛ بل هو تمسّكٌ بحق المجتمع في المعرفة حين تظهر قرائن انتهاك خطير، وهو مطالبةٌ بمسار مؤسسيّ لا انتقاميّ.

المشهد الذي ينبغي أن نشاهده الآن هو لنيابةٌ عامة تُحقق في الوقائع لا في حاملها، وهيئاتُ عدالة تُدقّق في الشبهات لا في الكاميرا، وهيئات مهنية تناقش “حريرتها” وتتوافق حول معايير نشر مسؤولة، تحمي الضحايا وتقلّل الضرر ولا تخنق الحقيقة.

لا يمكن أن ننسى تسجيل الإعجاب بالسلوك المهني والحقوقي الراقي الذي أبداه المهداوي حتى وهو يضع اليد على كنز ثمين (محتمل) يمكّنه من “الانتقام” من خصومه.

ولا يمكن أن نتجاهل كل هذا القدر من المسؤولية في انتقاء المقاطع المنشورة: ضرورةٌ وتناسبٌ في أسلوب عرض المادة، وطمسٌ لهويات غير المعنيين، وإخفاءٌ لما ينطوي على حياة خاصة أو تعريض بأشخاص غير معنيين…

أي أننا كنا أمام كشف يساعد في إظهار الحقيقة لكنه لا يؤذي الأبرياء.

تخبرنا التجارب المقارنة في مثل هذه الحالات، أن النشر قد يكون، نظريا، محلّ مساءلة محلية، لكن عندما يكون المحتوى ذا قيمة حقوقية عالية، فإن الأولوية تُعطى للتحقيق.

الأخلاقي والمفيد هنا هو أن نحمي الناس ونحاسب السلطة وأدواتها عندما تَثبُت الوقائع، لا أن نحمي السلطة بإسكات الناس.

فما المطلوب الآن؟

أولا، لابد من رفض أية حملة ترهيب أو تشهير ضد المهداوي، وتوفير ضمانات عدم الانتقام، وفق معيار حماية المبلّغين؛

ثانيا، لابد من إحالةٌ فوريةٌ للوقائع على مسارات التقصّي، وإنتاج ملفات قانونية تتضمن جلسات استماع، ونشرُ الحقائق، بالأصول والملاحق، وإلزامُ الأطراف المعنية بتقديم إفادات جادة وموثّقة؛

ثالثا، ينبغي أن نصبّ النقاش المهني حول معايير تحريرية شفافة تؤطر المنابر والصفحات التي تنشر مثل هذه المواد: لماذا ننشر؟ ما المصلحة العامة؟ كيف يتم كبح الجماح وتخفيف الضرر؟

هذا هو التمرين الذي نجح فيه المهداوي بتفوّق، وهذه هي الشفافية التي تحمي المجتمع… وتحمي الدولة.

ليس سرا أن ثقة الناس تُستعاد عندما يرون أن القانون أعلى من الجميع. ومقاطع الفيديو التي أُطلقها المهداوي في الفضاء العام ليست نهاية لشيء، بل اختبارٌ لشيئين: صلابة منظومة العدالة، واستعدادنا للدفاع عن حرية التعبير حين تمسّ جوهر تحقيق المصلحة العامة.

إن نحن اخترنا مطاردة الكاميرا وترك المحتوى، سنربح صخبا ونخسر الحقيقة. وإن اخترنا الطريق الأصعب، أي التحقّق، والحماية، ثم المحاسبة، فسنربح ما هو أثمن: حق الناس في أن يعرفوا، وحق الصحفي في أن يعمل بلا عصا غليظة فوق رأسه.

لهذا نقول بوضوح: حماية حميد المهداوي اليوم، هي حمايةٌ لمعيار ديمقراطيّ غدا. إذا كانت الوقائع صحيحة، فالواجب إجراءات وتحقيقات وترتيب مسؤوليات، لا مجرّد بيانات.

أمّا تحويل الجدل إلى سؤال من قبيل: “من صوّر؟” بدل “ماذا قيل وفُعل؟”، فهو أقصر الطرق لقتل المعنى.

والمغرب الذي يريد أن يكبر، لا يمكن أن يقتل المعنى.