المغرب والإمارات.. أبعاد الشراكة
أنهت بعثة تجارية تمثل غرفة دبي العالمية زيارة إلى المغرب والسنغال، ضمن إطار مبادرة “آفاق جديدة للتوسع الخارجي”. وقد وقّعت البعثة خلال زيارتها للمغرب على 4 مذكرات تفاهم مع كل من الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، وغرفة التجارة والصناعة والخدمات بجهة الدار البيضاء-سطات، وغرفة التجارة والصناعة والخدمات بجهة الرباط- سلا- القنيطرة.
وحسب بلاغ لـ”غرفة دبي العالمية” فقد عقدت البعثة التجارية أكثر من 300 اجتماع ثنائي، جمعت مسؤولي شركات من البلدين، وبحثت فرص تنمية الأعمال والشراكات الاقتصادية بين الطرفين، كما جرى تنظيم “منتدى الأعمال مع المغرب” بدعم من سفارة دولة الإمارات في الرباط، بحضور 420 مشاركا من كبار المسؤولين وقادة الأعمال وممثلي الشركات المحلية.
فما دلالات هذا الحدث الاقتصادي وما هي أبعاده؟
أولا: سياق الحدث ودلالاته
تعد زيارة البعثة التجارية لغرفة دبي العالمية إلى المغرب أول حدث اقتصادي لافت، يرمي إلى تفعيل مخرجات “إعلان الشراكة” الذي وقع عليه رئيسا البلدين في 4 ديسمبر 2023، إثر زيارة مفاجئة قام بها الملك محمد السادس إلى الإمارات، وتوجت حينها بالتوقيع على عدة اتفاقيات، شملت مجالات الأمن الطاقي، والبنيات التحتية، وأسواق المال والرساميل، وتكنولوجيا الاتصال، والأمن المائي والغذائي والاجتماعي. وهو الإعلان الذي تحدث عن طموح مشترك من أجل التأسيس لـ”شراكة راسخة ومتجددة ومبتكرة”، هدفها، وفق الإعلان نفسه، الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى درجة من “التكامل الاقتصادي والتعاضد النوعي على المستوى الإقليمي والدولي، وخصوصا في الفضاء الإفريقي”.
هذا علما أن رغبة البلدين في تجديد الشراكة الاستراتيجية بينهما، وفق إعلان 4 ديسمبر، أتت بعد خلافات، بل أزمة ثنائية صامتة استمرت طيلة الفترة الممتدة ما بين 2013 و2020، نتيجة خلافات جوهرية يبدو أنها أضرت بالتنسيق السياسي بين قيادتي الدولتين، دون أن تُعرض الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما للتصدع أو الانهيار. ومن بين أبرز تلك القضايا الخلافية:
1- الموقف من احتجاجات “الربيع العربي”؛ ففي الوقت الذي انحازت الإمارات ضد الربيع العربي، بل تزعمت ما يسمى بالثورة المضادة كما هو معروف، اختار المغرب طريقا خاصا به، تجنب بمقتضاه المواجهة الحادة مع الاحتجاجات الشعبية، سواء داخل المغرب مع حركة 20 فبراير، أو في المحيط الإقليمي، ملتزما بالقواعد الشكلية للديمقراطية. بل قام المغرب بفتح الطريق أمام حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية للفوز في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، ومن تم رئاسته للحكومة لولايتين انتخابيتين (2011-2016) و(2017-2021).
2- الموقف من حصار قطر في يونيو 2017، حيث أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر، تبعتها حكومات دول أخرى مثل الأردن وموريتانيا وجزر المالديف وجيبوتي وجزر القمر…الخ. وقد استمرت تلك القطيعة عامين ونصف العام. ورغم الضغوط التي مورست على المغرب للانضمام إلى ركب المقاطعين، إلا أنه رفض، مفضلا موقف الحياد البناء، إذ وصف في بلاغ رسمي حصار قطر بـ”المنزلق المقلق والخطير” بين الإخوة الأشقاء، ما أغضب الإمارات على وجه الخصوص، وتسبب في مزيد من التوتر السياسي بينها وبين المغرب، تجلى في تخفيض متبادل للتمثيل الدبلوماسي سنة 2019.
استغرق الخلاف بين الإمارات والمغرب حقبة زمنية طويلة، ولم تبدأ العلاقات في التحسن إلا في أواخر 2020، بعدما حصلت تطورات جوهرية على الصعيد الدولي والإقليمي، كان لها تأثير مباشر على العلاقات الثنائية، ويمكن إجمال تلك التطورات في المتغيرات التالية:
- الاتجاه العام نحو التهدئة على الصعيد العربي، دلت على ذلك المصالحة بين قطر ودول الحصار، ثم المصالحة بين تركيا والسعودية، وبين مصر وتركيا، وانتهاء بالاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية. ومن المرجح أن يكون الاتجاه نحو التهدئة والمصالحة في المنطقة، قد شمل المغرب والإمارات أيضا، إثر وساطة أردنية على الأغلب.
- تداعيات المبادرة الأمريكية للسلام، أو ما سمي بـ”صفقة القرن”، والتي رفضتها أغلب الدول العربية، علاوة على السلطة الفلسطينية. لكن هناك دول، منها الإمارات والبحرين، وافقت على المبادرة، وانخرطت فيما سمي بـ”اتفاقات آبراهام”، التي سعت إلى تطبيع دبلوماسي كامل بين دول عربية وإسرائيل. وقد انخرطت الإمارات في هذا المسار، بحجة الحفاظ على ما تبقى من مقومات الدولة الفلسطينية، خصوصا في الضفة الغربية والقدس. ورغم تحفظ المغرب على هذا المسار في بدايته، إلا أنه التحق به، من خلال اتفاق ثلاثي بينه وبين أمريكا وإسرائيل، ربط استئناف التطبيع مع إسرائيل باعتراف أمريكا وإسرائيل بالسيادة المغربية على الصحراء.
- كانت الإمارات تعترف دائما بالسيادة المغربية على الصحراء، وقد اصطفت إلى جانب المغرب سواء في حالة الحرب أو حالة السلم. لكن منذ نوفمبر 2020 انخرطت بشكل أقوى من ذي قبل في دينامية الاعتراف بمغربية الصحراء، من خلال فتح قنصلية كبرى في مدينة العيون، وتوجيه جزء من استثماراتها الاقتصادية إلى الأقاليم الجنوبية للمغرب، ولعل هذه التطورات كانت لها نتائج إيجابية على العلاقات بين البلدين، إذ عادت بعدها الزيارات المتبادلة بين المسؤولين، مهدت لعقد منتدى رجال الأعمال الإماراتيين والمغاربة في يوليو 2021، ثم لاحقا انعقاد الاجتماع الوزاري الأول للجنة الاقتصادية العليا بين البلدين في أبريل 2023، والتي اتفقت على مضاعفة التبادل التجاري والاستثماري خلال السنوات السبع المقبلة، وهي أهداف تأخذ بعين الاعتبار المصالح القائمة وتلك التي يجب خلقها.
ثانيا: طور جديد من الشراكة
بالنظر إلى المعطيات السابقة يمكن القول إن مضمون إعلان الشراكة قد أسس لمرحلة جديدة في مسار التعاون الثنائي بين البلدين، يمكن أن ترتقي بالعلاقات الثنائية وتسمح لهما بخيارات وهامش أكبر للحركة على الصعيدين الإقليمي والدولي. ولعل الدافع وراء ذلك؛ رغبة الإمارات في تعزيز موقعها الجيوسياسي في المغرب وغرب افريقيا، والحصول على حصتها من الاستثمارات في البنية التحتية للمغرب استعدادا لتنظيم كأس العالم 2030، إلى جانب اسبانيا والبرتغال، والتي تقدر ميزانيتها بـ50 مليار دولار. في حين يسعى المغرب إلى كسب رهان تنظيم كأس العالم، وتحويله إلى فرصة لتسريع تحوله الاقتصادي والاجتماعي، وتعزيز قوته الناعمة في الإقليم. في هذا السياق، لا تبدو زيارة البعثة التجارية لغرفة دبي العالمية سوى حلقة جديدة في مسار تنزيل وتحقيق أهداف إعلان 4 ديسمبر، للاعتبارات التالية:
1- تضمن الإعلان أهدافا دقيقة ومحددة تتمثل في الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والصناعية إلى مستوى الروابط السياسية، وإرساء نموذج تعاون اقتصادي واستثماري شامل ومنفتح على القطاع الخاص، والانخراط في مشاريع مهيكلة تستجيب لمصالح الطرفين في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية أساسا. في ضوء ذلك، جرى الاتفاق على إنجاز مشترك لمشاريع محددة مثل خط القطار فائق السرعة بين مدينتي القنيطرة ومراكش، وتطوير مطارات دولية في مدن الدار البيضاء ومراكش والداخلة والناظور، وتهيئة الموانئ والاستثمار في تدبيرها خاصة ميناء الناظور-غرب المتوسط، وميناء الداخلة الأطلسي، علاوة على استثمارات مشتركة في قطاع الطاقة، منها مشروع أنبوب الغاز الإفريقي- الأطلسي، ومشاريع الطاقات المتجددة في أقاليم الصحراء، وقد أشار الإعلان إلى إمكانية إعداد مشاريع أخرى من خلال مذكرات تفاهم سيتم إعدادها خلال أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر.
2- تطمح الإمارات إلى التموقع بشكل أفضل في المغرب، علما أنها المستثمر الأول عربيا والثاني عالميا في المغرب، باستثمارات بلغت قيمتها أكثر من 5 ملايير دولار، وتمثل 21% من رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب حسب إحصاءات 2021. وعموما، يتجاوز مجموع الاستثمارات الإماراتية في المغرب على مدى السنوات الماضية 30 مليار دولار.
3- وإذا كان الاجتماع الوزاري الأول المنعقد في أبريل 2023 قد تحدث عن قرار بمضاعفة الاستثمارات الإماراتية في المغرب، فقد أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى وجود قرار إمارتي باستثمارات جديدة تفوق قيمتها 5 ملايير دولار، ما يعني مزيدا من تشبيك المصالح، ونفوذا إماراتيا أقوى كذلك، خصوصا وأن القطاعات المشمولة بإعلان الشراكة تطال جل القطاعات الاستراتيجية للمغرب، بدءا من الطاقات المتجددة، والبنيات التحتية (الموانئ، المطارات، الطرق السريعة…)، والأمن الفلاحي والمائي، وأسواق المال والرساميل، وتكنولوجيا الاتصالات.
4- وتجدر الاشارة أن قيمة تجارة دبي غير النفطية مع المغرب قد بلغت خلال 2023 نحو 2,1 مليار دولار، فيما بلغ عدد الشركات المغربية النشطة المسجلة في عضوية غرفة تجارة دبي 850 شركة، وشهدت الأشهر الثلاث الأولى من العام 2024 انضمام 99 شركة مغربية جديدة إلى عضوية الغرفة. وتأتي الشركات المغربية في المرتبة الرابعة ضمن قائمة الشركات الأفريقية النشطة في عضوية غرفة تجارة دبي من حيث العدد.
5- يخطط المغرب لمضاعفة طاقته الفندقية بإضافة 1.5 مليون غرفة جديدة، لاستقبال 26 مليون سائح متوقع بحلول عام 2030، وهو ما يشكل فرصا بمليارات الدولارات لمستثمري دبي قبل بطولة كأس العالم 2030. وقد تحدث نائب رئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب والرئيس الجديد لمجلس الأعمال الإماراتي المغربي، أن المغرب يتطلع إلى خبرة دبي في استضافة الأحداث الكبرى ذات المستوى العالمي، مضيفا: “لدينا برنامج استثماري بقيمة تزيد عن 50 مليار دولار تم تخصيصه فقط لكأس العالم، ومن الواضح أن هذا لا يمكن أن يتم بدون شريك”. ويُنظر إلى دبي على أنها الشريك المفضل لمساعدة المغرب في بناء مشاريع تطوير ضخمة مثل أكبر ملعب في العالم، المخطط له في منطقة بن سليمان بالقرب من الدار البيضاء.
يبدو ختاما أن المغرب قد فتح أبوابه أمام المال الإماراتي، بما يشير إليه من أجندات سياسية لا تحظى بالقبول من لدن جميع الدول في المنطقة العربية أو القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المحيط الجيوسياسي للمغرب، وهي أجندات تثير التوجس لدى القوى المنافسة الأخرى، ما يطرح السؤال حول التداعيات المحتملة لهذا النوع الجديد من الشراكات على باقي الشركاء، سواء الخليجيين أو الأوربيين أو غيرهما.
قد يكون إعلان الشراكة الجديد مع الإمارات نموذجا لجيل جديد من الشراكات الاستراتيجية، بمعنى أن المغرب بصدد المرور إلى مرحلة جديدة في الانفتاح على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، تبررها حاجته الملحة إلى الموارد لتسريع تحوله الاقتصادي والاجتماعي، وهي فرضية قد تكون قريبة من الواقع. لكن قوى أخرى ربما تنظر إلى التكامل المغربي الإماراتي بريبة وتوجس، خصوصا الأوربية مثل فرنسا، التي ارتفعت أصوات بها في السنوات الأخيرة تحذر من تداعيات التحالف المغربي الخليجي على مصالحها الاستراتيجية ليس في الداخل المغربي فقط، بل في غرب افريقيا كذلك.