المغرب الكبير.. قبل فوات الأوان

حين يعلو صدى القطيعة والصراع على ما سواه، وتكاد تنقطع آخر خيوط الرابط بين شعوبنا، يعلو صوت العقل، ليذكّرنا بالحقيقة الأبسط والأعمق التي ظللنا نهرب منها طويلا:
مصير دول وشعوب المغرب الكبير واحد، ولا أفق لنا خارج وحدتنا، ولا مخرج من هذا التيه إلا بالرجوع إلى ما يجمعنا، ودفن ما فرّقنا إلى غير رجعة.
في هذا السياق تأتي مبادرة المركز الدولي لمبادرات الحوار، والتي تنطلق منذ السطر الأول لنص ندائها بالإشارة إلى مسؤولية الجزائر عن القطيعة الحالية بفعل قرارها قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب سنة 2021، لتذكرنا أنه ومنذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، وكيانات هذا الفضاء المغاربي تتصارع أكثر مما تتعاون، وتتناحر أكثر مما تتكامل.
حدود مغلقة، وسفارات مُقفلة، ومشاريع معطّلة، وأجيال متعاقبة لا تعرف من الجغرافيا التي تسكنها سوى ما تسمح به تأشيرات العبور، وكأننا أبناء أوطان منفصلة، لا شعوب تجمعها ذاكرة مشتركة، ولا صراع واحد ضد الاحتلال الأجنبي، ولا أحلام واحدة.
لكن الحقيقة أقوى من الجدران، وأعمق من الخلافات. وهي تقول إننا، شئنا أم أبينا، لسنا سوى شعب واحد موزّع على خمس دول، مزّقته رواسب الاحتلال وخطوط رسمها الاستعمار الفرنسي بدماء من قاوموه، ثم جئنا نحن بعدها لنحوّلها إلى سجون سيادية، وخنادق متقابلة، ومعارك عبثية لا رابح فيها سوى اليأس والتخلّف والاستبداد.
اليوم، حين يتقدّم المناضل السياسي والحقوقي المغربي السابق، والدبلوماسي الدولي جمال بنعمر، بمبادرة شجاعة عبر المركز الدولي لمبادرات الحوار لإحياء ملف الاتحاد المغاربي، فإنه لا يعبث ولا يبيع وهما، ولا يغازل نوستالجيا شعوبية.
إنه ببساطة يستحضر أبسط قوانين التاريخ والجغرافيا والعقل: معا أو لا نكون.
كثيرا ما نتحدث عن الاتحاد الأوروبي بإعجاب، ونستعرض أرقامه وأمجاده، دون أن نتجرأ على مواجهة السؤال الحارق: كيف استطاع الأوروبيون، وهم الذين تقاتلوا في حربين عالميتين دمويتين، وسالت بينهم أنهار من الدماء، وتفرّقهم أعراق ولغات وثقافات؛ أن يُشيّدوا تكتلا بات اليوم أحد أكبر القوى الاقتصادية والسياسية في العالم؟
الجواب بسيط ومعقد في آن واحد: لأنهم قرروا يوما أن يتجاوزوا إرث الحروب والصراعات، وأن يجعلوا من التبادل والتكامل بديلا عن التسلح والكراهية. ولأنه لم يعد مقبولا أن يظل شعب فرنسي أو ألماني أو إيطالي أو بلجيكي مرتهنا لجنون القوميات وضيق الأفق السيادي.
أما نحن، فبيننا من التاريخ المشترك أضعاف ما لدى الأوروبيين. دماؤنا امتزجت في معارك الاستقلال، ووجداننا واحد من طرابلس إلى نواكشوط، ولهجاتنا تتقاطع، وأكلنا متشابه، وأفراحنا وأحزاننا تتكرر، ومع ذلك ما زلنا نعيش على وقع حدود وهمية لا تساوي شيئا أمام حقائق الجغرافيا وروابط الدم والثقافة.
يكفي أن نُذكّر، دون مبالغة، أن الاتحاد المغاربي هو أقل التكتلات الإقليمية اندماجا في العالم. وأن هذا الإقليم الذي يملك من الموارد الطبيعية، والثروات البشرية، والموقع الجيوسياسي، والعمق التاريخي، ما يمكن أن يجعله قاطرة في إفريقيا والبحر المتوسط، يعيش حالة هدر مزمن لموارده ولطاقاته، هدر لا يغتفر أمام الأجيال القادمة.
في المقابل، ندفع اليوم جميعا، مغاربة وجزائريين وتونسيين وليبيين وموريتانيين، كلفة باهظة لهذا الفشل. فبدل أن نكون قوة اقتصادية موحدة في مواجهة التكتلات الدولية، نتحول إلى أسواق مفتوحة للمنتجات الأجنبية، ومخازن للمواد الخام التي تُنهب دون مقابل، وساحات لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
وإذا كانت الحروب الباردة والتوازنات الدولية قد منعت بناء الاتحاد المغاربي في العقود الماضية، فما مبرر استمرار ذلك اليوم في عالم لم يعد يعترف إلا بالكبار وبالتكتلات الكبرى؟ ما مبرر أن نبقى أسرى قضية، مهما عظمت عدالتها أو تعقّدت تفاصيلها، تُستخدم ذريعة لتبرير قطيعة تحرم عشرات الملايين من أبناء المنطقة من أبسط حقوقهم في التواصل والتبادل والتكامل؟
لن نكون صادقين إذا تجاهلنا أن قضية الصحراء هي العنوان الأكبر الذي يختبئ وراءه هذا الفشل التاريخي. لكنها، رغم كل شيء، ليست قدرا محتوما، ولا لعنة أبدية. لقد تعاملت الأمم والشعوب مع قضايا أكثر تعقيدا، ومع حدود أكثر تعسفا، ومع صراعات أشد دموية، ونجحت في تجاوزها.
الحل لا يكون بتجاهل القضية، ولا بالقفز عليها، ولكن بإعادة صياغة علاقتنا مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، والاعتراف بأن أية مقاربة مغاربية جادة لا يمكن أن تتم دون شجاعة سياسية، ودون إرادة مشتركة لوضع المستقبل فوق الحسابات اللحظية والغرائز السيادية.
على مدى عقود، ظل خطاب الوحدة المغاربية حبيس بيانات القمم المغلقة، ومواد الكتب المدرسية، وخطابات المناسبات الرسمية. لكنه اليوم يحتاج أن ينتقل إلى الفضاء العمومي، إلى الشارع، إلى الإعلام، إلى الجامعات، إلى المجتمعات المدنية.
مبادرة المركز الدولي لمبادرات الحوار، تحت قيادة جمال بنعمر، تأتي لتكسر هذا الجمود، وتدفع بهذا الملف من دائرة الحلم إلى فضاء الفعل. ومن واجب كل صاحب ضمير حي في هذا الفضاء المغاربي، أن ينخرط في هذه المعركة النبيلة، لا لأنها معركة مثالية أو رومانسية، بل لأنها ببساطة معركة البقاء.
نحن في زمن تتلاشى فيه الدول الصغيرة، وتبتلع الكيانات الكبرى الأسواق والسياسات والسيادات، وليس أمام شعوب المغرب الكبير خيار ثالث: إما أن نبني اتحادا يليق بكرامتنا وتاريخنا وأحلام أجيالنا، وإما أن نستمر في تسليم رقابنا للأجنبي المتحالف مع المستبدّين، وللمصالح العابرة، ولحسابات القوى التي لا ترى فينا سوى زبائن أو أدوات أو حقولا للنهب.
المعركة ليست بين المغرب والجزائر، ولا بين تونس وليبيا وموريتانيا، بل بين من يريد للمنطقة أن تنهض موحدة حرة سيدة، وبين من يربط مصيرها باستمرار الصراع والتمزق والتبعية.
لقد علّمنا التاريخ أن الأوطان لا تبنى على الحدود، بل على جسور الثقة. وأن القطيعة ليست قدرا. وأن الذين يربحون اليوم من هذا التمزق، لن يجدوا ما يربحونه غدا حين تنهار أوطان بأكملها فوق رؤوس الجميع.
السؤال الذي تطرحه علينا مبادرة جمال بنعمر اليوم هو:
هل نستفيق قبل فوات الأوان؟