story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غرفة العمليات8.. المصوّر الذي أنقذ أمريكا!

ص ص

صباح الثاني عشر من ماي 1975، كانت الولايات المتحدة الأمريكية بالكاد تستجمع أنفاسها بعد مشهد الانهيار الكبير في فيتنام.

قبل اثني عشر يوما فقط من هذا التاريخ، تابع العالم صور الهلع والفوضى في سايغون: طوابير لا تنتهي من الفارين يتشبثون بمروحيات تقلع من فوق أسطح السفارة الأميركية، وأمواج من اللاجئين يرمون أنفسهم إلى البحر في قوارب مكتظة.

لم تكن تلك الصور مجرد نهاية حرب طويلة، بل كانت رمزا لانكسار قوة عظمى استنزفت قرابة عقدين في جنوب شرق آسيا لتخرج مثقلة بالهزيمة والعار.

لكن الزمن لم يمهل أميركا حتى تلعق جراحها. في غمرة هذا الانكفاء، جاء نداء استغاثة من خليج سيام: سفينة شحن أميركية تحمل العلم الأميركي واسم “ماياجويز” تعرّضت لإطلاق النار من قوات الخمير الحمر وتم اقتيادها نحو ميناء كمبودي مجهول.

في لحظة واحدة، بدا أن فيتنام التي ظنت واشنطن أنها طوت صفحتها، عادت لتجرّها من جديد إلى أعماق المستنقع، كما كتب هنري كيسنجر لاحقا: “كنا نعتقد أننا تحررنا أخيرا من جراح الهند الصينية، فإذا بها تمتد إلينا مثل غريق يتشبث بمن حوله.”

كانت الساعة الثالثة فجرا في واشنطن. وكان الرئيس جيرالد فورد نائما، بينما تدفّقت الأخبار من آسيا نحو السفارات الأميركية ومنها إلى مركز العمليات في البيت الأبيض.

هنا برز السؤال الأزلي الذي يلازم موظفي “غرفة العمليات”: هل نوقظ الرئيس فورا أم ننتظر حتى الصباح؟ المسألة ليست تقنية. فإيقاظ الرئيس يعني أنه سيتلقى تقارير أولية غير مكتملة، وأنه سيطرح أسئلة لا إجابة لها. لكن تركه نائما قد يفتح باب النقد القاسي: كيف يعقل أن يكون الرئيس آخر من يعلم؟

هذه المعضلة رافقت كل الإدارات الأميركية. غايل سميث، المسؤولة السابقة عن إفريقيا في مجلس الأمن القومي، روت أنها تلقت ذات فجر مكالمة من الغرفة تقول إن انفجارين متزامنين هزا سفارتي أميركا في نيروبي ودار السلام: “سألوني إن كنت أريد إيقاظ الرئيس. كنت أتمدد في سريري وأفكر: انفجاران معا؟ يتصلون بي أنا؟! لا بد أن الأمر أكبر.” وفي النهاية، فضّلت أن تُحيل القرار إلى مستشار الأمن القومي، الذي اختار إيقاظ بيل كلينتون.

تكرّرت التجربة نفسها مع رؤساء آخرين. ريغـان، مثلا، كان ينام في كاليفورنيا حين اشتبكت طائراته مع مقاتلات ليبية فوق خليج سرت. اختار مستشاروه ألا يوقظوه. وفي صباح اليوم التالي، حين عرف الصحافيون أنه نام بينما طائراته تسقط خصوما، طرحوا السؤال القاسي: “من يحكم البلاد إذاً؟”.

وفي عهد كارتر، تلقى مستشاره بريجنسكي اتصالا مرعبا في الفجر: 220 صاروخا سوفياتيا في طريقها نحو أميركا. دقائق بعد ذلك ارتفع العدد إلى 2200 صاروخ. أمسك بريجنسكي الهاتف ليستيقظ الرئيس ويأمر برد نووي، قبل أن يأتيه اتصال آخر يؤكد أن الإنذار كاذب.

بعد ساعات، عادت واشنطن إلى النوم… على وقع حقيقة أن خطأ تقنيا كاد أن يُشعل حربا نووية.

بالعودة إلى أزمة ماياجويز، استيقظ الرئيس فورد متأخرا نسبيا. وحين جلس في مكتبه كان محاطا بمستشارين غارقين في تقارير متناقضة. السفينة في عرض البحر، ثم لا، بل على الشاطئ. الطاقم محتجز في جزيرة صغيرة، ثم لا، بل على متن قارب صيد. وفي كل مرة تُبنى تقديرات وسياسات على معلومة سرعان ما يتضح أنها خاطئة.

في هذه الفوضى، استحضر المسؤولون شبح حادثة “يو.إس.إس بويبلو” عام 1968 حين اختطف الكوريون الشماليون سفينة أميركية واحتجزوا طاقمها أحد عشر شهرا. لم يكن فورد مستعدا لتكرار الكابوس نفسه.

هنا برز الوجه الآخر للسياسة الأميركية: صراع بين دعاة الحزم الفوري وفي مقدمتهم كيسنجر، وبين من نادوا بالتريث. وضع فورد خطة من أربع نقاط: حصار السفينة، منع مغادرتها، إنزال قوات المارينز على الجزيرة، واسترجاع الطاقم بأي ثمن.

في الأثناء وقعت مأساة مبكرة: تحطم مروحية أميركية ومقتل 23 جنديا. لم يعد الأمر يتعلق فقط بإنقاذ رهائن، بل صار امتحانا لمصداقية البيت الأبيض بعد كارثة فيتنام.

بلغت الدراما ذروتها حين بعث طيار في الجو رسالة عاجلة: “أمامنا قارب كمبودي متجه للبر. أعتقد أن هناك وجوها بيضاء على متنه. هل أقصفه؟” فجأة، وجد رئيس الولايات المتحدة نفسه مطالبا بأن يحسم قرارا عملياتيا في الجو: هل يُطلق النار أم يتراجع؟

احتدم النقاش داخل القاعة. أحدهم قال: “لو قتلنا رهائننا بأيدينا فستكون كارثة أخلاقية.” كيسنجر، ببروده المعهود، عقّب: “لو كنا قد اتخذنا منذ البداية قرارا بإغراق كل ما يغادر الجزيرة، لكان الوضع أوضح.”

لكن فورد، على غير عادة رؤساء القوة العظمى، اختار التردد: أمر باستخدام الغاز المسيل للدموع أولا، والامتناع عن القصف المباشر. لحسن الحظ، كان القارب يحمل بالفعل طاقم السفينة، وقرار فورد أنقذهم. لكنه اعترف لاحقا بأنه عاش أسوأ ساعات عمره، عندما كان يتساءل إن كان قد حكم بالإعدام على مواطنيه.

وسط هذا الارتباك، وقع حدث غير متوقّع. في قاعة مجلس الأمن القومي، وبين الجنرالات والوزراء، رفع شاب في الثامنة والعشرين صوته. لم يكن دبلوماسيا ولا عسكريا. كان مصوّر البيت الأبيض ديفيد هوم كينيرلي. قال للحاضرين: “أنتم تتحدثون عن كمبوديا كما لو أنها فرنسا. كنت هناك قبل أسبوعين. لا توجد حكومة ولا خطوط هواتف يمكن الاتصال بها. ربما تصرّف قائد محلي بمفرده. إذا قصفتم فلن تحققوا شيئا، بل ستقتلون أبرياء.”

كان تدخلا غير مألوف. كثيرون استاؤوا، لكن الرئيس فورد استمع. بل غيّر موقفه، ورفض طلب كيسنجر بتنفيذ غارات شاملة، مكتفيا بضربات محدودة. لاحقا، كتب في مذكراته أن كلام المصوّر كان “منطقيا”، وإن أوصاه بأن يكتفي في المستقبل بتمرير ملاحظاته في ورقة.

انتهت الأزمة بمشهد مفعم بالتناقض. بينما كان المارينز يسقطون قتلى في الجزيرة إثر مقاومة أعنف مما توقعته الاستخبارات، كان الرئيس يرتدي بذلة سهرة ويستقبل رئيس وزراء هولندا في عشاء رسمي بالبيت الأبيض.

مع حلول الليل، جاء الخبر: الطاقم أُطلق سراحه، وعاد سالما. تنفّس فورد الصعداء، وكيسنجر ورامسفيلد قفزوا فرحا. المصوّر نفسه التقط صورة للرئيس يضحك بين رجاله. صورة بدت وكأنها انتصار مبين.

لكن خلف العدسة كانت الحقيقة مختلفة: 41 جنديا أميركيا قضوا في العملية، أسماؤهم نُقشت لاحقا على جدار قتلى حرب فيتنام باعتبارهم “آخر ضحاياها”.

تختصر قصة ماياجويز معضلة السياسة في زمن الأزمات. المعلومة غير المؤكدة قد تكون أكثر خطرا من غيابها. والقرار المتأخر يضاعف الكلفة، والقرار المتسرع يهدد بالكارثة.

شخصية الرئيس، بطباعه ونزعته الإنسانية أو نزوعه للمواجهة، قد تغيّر مجرى الأحداث أكثر من كل المؤسسات. وفي النهاية، يدفع الجنود البسطاء ثمن تجاذبات تُحسم في قاعات اجتماعات فارهة.

لم يكن فورد رئيسا كارزميا ولا استراتيجيا كبيرا. لم يُنتخب لا نائبا ولا رئيسا. لكنه في تلك الأزمة أبان عن مزيج من التردد والبراغماتية. استمع حتى للمصوّر، رفض الإفراط في القوة، وتشبث بخيط رفيع بين الحزم والحذر.

ربما كان ذلك ما أنقذ الرهائن، لكنه لم يمنع سقوط جنود أميركا. السياسة هنا لم تعد فن الممكن فقط، بل فن الاختيار بين السيئ والأسوأ.

الدرس الذي يقدّمه هذا الفصل من التاريخ ليس عن كمبوديا ولا عن أميركا وحدها، بل عن هشاشة القرار البشري في مواجهة ضباب المعلومة وضغط الزمن.

مهما عظمت الإمبراطوريات، تبقى الحقيقة أن قادتها يقررون في لحظات حرجة استنادا إلى معطيات ناقصة، وغالبا ما تكون النتيجة مزيجا من النجاح والفشل، من الفرح والحزن، من النجاة والفقدان.