“اللي مغطي ب ديال الناس عريان”

بعد ثلاثة أيام ستحل الذكرى الثانية لقلب نظام الحكم في الغابون والذي حدث في 30 غشت 2023. والغابون دولة وبلد رائع حظيت بشرف زيارته ومعرفة أهله الطيبين، ولنا معه علاقات متميزة ومتينة ويعتبر جزءا من محيط التأثير السياسي والاقتصادي لبلادنا في القارة.
وحيث إن القارة لا توجد فيها فقط الجزائر، فإنني كثيرا ما أتساءل لماذا لا تحظى الأحداث في باقي دول القارة الإفريقية، وبالخصوص في جوارنا المباشر، بالقدر الكافي من الاهتمام والاحترام رغم ما تحمله هذه الأحداث من تأثير واحتمالات التأثير على حاضرنا ومستقبلنا، وأن الاستهانة بما يحدث حولنا قد يضعنا في غفلة منا في وضع معقد يصعب التعاطي معه.
كمثال: ماذا لو أن الانقلاب في الغابون حمل نخبة معادية لمصالحنا الاستراتيجية؟ ودعوني أسترجع بعض الأحداث لتوضيح ما أعنيه أكثر.
في يوم 13 يناير 2020، انعقد في مدينة پو PAU الفرنسية لقاء بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء دول الساحل الخمسة: مالي، وموريتانيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، على إثر استدعاء، نعم استدعاء وليس دعوة، لرؤساء هذه الدول من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (للإشارة هذا اللقاء كان مبرمجا يوم 16 دجنبر 2019 ولكن تم تأجيله بسبب مقتل واحد وسبعين جنديا من النيجر في عملية إرهابية).
وقد تعرض رؤساء الدول الإفريقية في هذا اللقاء للإهانة والتقريع من طرف الرئيس الفرنسي الذي قال لهم، وكأنهم موظفون لدى الإليزيه، أنهم ليسوا في مستوى المهام التي يضطلعون بها، وأنهم لا يقومون بما يكفي ولا يلتزمون بتوجيهات فرنسا السياسية والعسكرية والأمنية…
بمعنى آخر، مسح بهم الأرض على رؤوس الأشهاد. العالم كله رأى وسمع ما حصل، والكثيرون أدانوا خنوع وانبطاح الرؤساء الأفارقة. المواطنون الأفارقة أحسوا بالإهانة، ومنهم من كان بإمكانه إحداث التغيير واسترداد الكرامة وماء الوجه. زوبالفعل ما الذي حدث بعد ذلك؟
في يوم 24 ماي 2021، سيتم قلب نظام الحكم في مالي ويستلم زمام الأمور العقيد عاصيمي غويتا، خريج المدارس العسكرية بالمغرب. النتيجة: تم طرد القوات الفرنسية بين شهري فبراير وغشت 2022، وتوقيع اتفاقيات عسكرية وأمنية مع موسكو، وإرسال العديد من العسكريين للتدرب في القواعد والمدارس العسكرية الروسية، كما تم تجهيز الجيش المالي بمختلف الأسلحة من طائرات ومدافع وأسلحة فردية… وكل هذا لم يكن ضمن توقعات فرنسا.
يوم 24 يناير 2022، سيحصل انقلاب في بوركينا فاسو بقيادة العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، والذي انقلب عليه لاحقا العميد إبراهيما تراوري في شتنبر 2022، ليتم طرد القوات الفرنسية في فبراير 2023.
ومرة أخرى، تخرج الجماهير في واغادوغو حاملة الأعلام الروسية وتتم مراجعة العلاقات مع فرنسا في مختلف المجالات في اتجاه التقليص، وتتم ترقية العلاقات مع موسكو لمستوى الحلفاء.
يوم 26 يوليو 2023: سيتم قلب نظام الحكم في النيجر من طرف الجنرال عبد الرحمان تشياني، وطرد القوات الفرنسية من النيجر بين أكتوبر ودجنبر 2023، وهذه المرة صار الجميع يعرف الوصفة.
بالإضافة إلى تلك الانقلابات الناجحة، يجب التعريج على ما وقع في التشاد ولايزال مستمرا، حيث تم يوم 20 أبريل 2021 اغتيال الرئيس التشادي إدريس ديبي، إلا أن ميزان القوى كان لا يزال في مصلحة حاشيته التي تمكنت من تنصيب ابنه محمد إدريس ديبي مكانه. لكن الوضع العسكري والأمني في التشاد لا يزال حاملا لعدم الاستقرار والكثير من المفاجآت التي قد تحدث في القريب.
لم ينج، لحد الآن، من لعنة لقاء PAU من بين الرؤساء المشاركين سوى الرئيس الموريتاني، والذي استطاع من خلال استقبال لاڤروڤ في فبراير 2023 في سياق زيارة هذا الأخير لدولتي مالي والسودان، والتي كان من المقرر أن تشمل المغرب. وهي بالمناسبة الزيارة الأولى لوزير خارجية روسي لموريتانيا منذ 60 عاما (يا للمفاجأة)، حيث صرح الطرفان أنهما ناقشا التعاون العسكري والأمني، نعم بالضبط، وعبَّر لافروف عن استعداد بلاده لدعم نواكشوط في حربها على الإرهاب (زعما).
بعبارة أخرى: نواكشوط استوعبت الدرس وفهمت الأحداث الجارية في محيطها وفعلت ما يتطلبه منها الموقف .
طبعا، عدوى هذه الأحداث الإفريقية لم تنته بعد، والواضح أنها تخبىء لنا مفاجآت كثيرة قادمة، وأقول مفاجآت لأن هذه التغييرات خاضعة لخريطة طريق منطقية يتم ترتيبها وإخراجها بدرجة عالية من السرية والدقة والتي إن لم نتعامل معها بالقدر الكافي من الذكاء والاحترام قد نجد نفسنا خارج ترتيباتها.
إن عنجهية الغرب التي لا يجدر أن تكون قدوة لنا، وسلوكيات وغرور طبقاته السياسية والعسكرية، لا تريد أن ترى للأسف ما يحدث ولذلك سيستمر في الحدوث على طريقة قطع الدومينو .
ويكفي أن نورد في سياق هذه السيرورة، السلوك الذي ينتهجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتجاه رؤساء العديد من الدول الأفريقية على غرار لقاء يوم 9 يوليو 2025، ورؤساء أوروبا يوم 16 غشت 2025، والشرق الأوسط، مثل زيارة ملك الأردن لواشنطن في فبراير الماضي وما تعرض له حينها من إهانة، وزيارة ترامب للخليج في المنتصف من مايو الأخير واستعراضاته، والسلوك الذي لا يزال ينتهجه أيضا العديد من رؤساء الدول الأوروبية اتجاه ما تبقى لهم من تابعين رؤساء وملوك خاضعين في مختلف القارات، ستظهر نتائجه تباعا، لأن كلا من الصين وخصوصا روسيا يتتبعان بدقة أخطاء الأنظمة الاستعمارية الغربية، ويطرحان نفسيهما باستمرار كبدائل عن وضع جيوسياسي قائم، نحو وضع جيوسياسي في طور النهوض، ويجب أن يقوم.
هل تتذكرون بهذه المناسبة كيف تم استقبال أورسولا فون دير لاين في بكين في يوليو الماضي حين لم تجد في استقبالها سوى سائق الحافلة وموظفي المطار تقريبا؟
ما يجب أن نفهمه ويفهمه زعماء هذه البلدان هو أن “سليمان قد مات”، وأن دابة الأرض ستأكل منسأته ويسقط عاجلا أو آجلا، وأن وهم الاعتماد على الغرب للاحتفاظ بزمام الحكم قد ولى، لأن الغالبية العظمى من دول الغرب لم تعد قادرة حتى على حماية نفسها، بل لم تعد قادرة حتى على ضمان العيش الكريم للسواد الأكبر من مواطنيها.
طبعا العديد من الناس يستعجلون وقوع أحداث هي قادمة لا محالة، ولكن لعجلة التاريخ وتيرتها وسرعتها الخاصة. وتيرة قد ترتفع في أية لحظة، والمهم هو أن نستعد لها، وعندنا في الشمال نقول بالدارجة: “للي مغطي ب ديال الناس عريان”.